تصلح الحكاية لأن تكون عملاً درامياً محفزاً للخيال الذى يتراجع أمام الواقع منذ لحظة البداية. هكذا يمكنك أن تشاهد قصة حياة رجب طيب أردوغان الذى يتركز السؤال اليوم -بعد واقعة فشل انقلاب قادها بعض من قادة الجيش التركى ضده يوم الجمعة الماضى- حول ما سيكون عليه مستقبله فى ظل وضوح حالة الانقسام السياسى والعسكرى والأمنى والمجتمعى التركى التى باتت غير خافية بعد تلك المحاولة.
المتتبع لحياة «أردوغان» وخلفيتها وطريقة تفكيره ومسار خطواته، يدرك أنه أمام رجل ميكيافيللى النزعة يتضح فى سياسته شعار «الغاية تبرر الوسيلة» أياً كانت الوسيلة وأياً كان التراجع عما يؤمن به أو عن قناعاته الشخصية، المهم تحقيق الهدف سواء فى حياته الشخصية التى تتوقف فيها عند بيعه «السميط» والبطيخ لتوفير نفقات دراسته فى الصغر، وهو ما يبهرك فى تلك الشخصية المتحدية لظروفها، أو فى حياته السياسية التى دفعته لإبعاد شبهة انتمائه لأفكار حزب الفضيلة الدينى الذى أسسه أستاذه نجم الدين أربكان وكان «أردوغان» عضواً مؤسساً له، بالانفصال عن الحزب هو ورفيق دربه عبدالله جول وتأسيس حزب العدالة والتنمية عام 2001، مؤكداً أنه لن يدخل فى أى مواجهات مع المؤسسة العسكرية وأنه سيسعى لإقامة دولة أتاتورك بكل ما فيها من معاصرة وتحديث.
ليس هذا وحسب، بل إن أردوغان الذى حوكم وعزل من الوظائف الحكومية وسجن بسبب كلمات له فى إحدى خُطبه اعتبرت تحريضاً على الكراهية الدينية، كان ميكيافيللى النزعة حتى مع رفقاء عمره أمثال عبدالله جول رئيس تركيا السابق، وأحمد داود أوغلو وزير الخارجية ورئيس الوزراء السابق. فالأول تقلد منصب رئيس الوزراء فى أعقاب فوز العدالة والتنمية بالأغلبية الساحقة فى انتخابات 2002 وتنازل عنها لأردوغان بمجرد إسقاط تهمة سجنه عنه ورضى بمنصب وزير الخارجية ثم رئيساً للجمهورية من دون أى صلاحيات حتى عام 2013 لأن أردوغان كان رئيساً للوزراء بلا منازع على السلطات وفقاً للدستور الذى تجاهله بمجرد انتخابه رئيساً للجمهورية وصار أيضاً الرجل الأول مجبراً رفيق دربه الثانى أحمد أوغلو رئيس الوزراء على الاستقالة منذ عدة أشهر لمجرد بزوغ نجمه وتوطد علاقاته مع الغرب ونجاحه فى ملفات عدة. جاء أردوغان للسلطة ليبقى.. ليس هذا وحسب بل جاء ليبقى وحيداً دون منافس له.
لا تمثل القوانين عقبة فى طريق أردوغان، ألغى عقوبة الإعدام عام 2004 طمعاً فى عضوية الاتحاد الأوروبى التى لم ولن ينالها، ويلوح بعودتها اليوم لتطبيقها على من سعوا للإطاحة به. ادعى احترام دستور الجمهورية التركية وعدل 26 مادة منه لتقليص سلطات القضاء والجيش عام 2010 ويسعى لتغيير نظام الحكم به اليوم. عزل 49 ألف تركى من وظائفهم فى ثلاثة أيام دون نص قانونى لمجرد الاشتباه فى تأييدهم للانقلاب ضده. اعتقل ما يزيد على 8000 شخص فى الجيش والشرطة هذا غير القتلى والمصابين. ولذا يكثر التساؤل عن مستقبل الرجل الذى لم يعرف يوماً الصمود على موقف ولم يعرف غير تحقيق أهدافه حتى لو كانت بالاعتذار لروسيا بعد مكابرة فى حادث إسقاط الطائرة، وتطبيع مع إسرائيل وقبول بتعويضات وتصدير غاز لحماية مصالحه والوجود فى غزة، أو إعلان استعداد بلاده لبقاء «بشار» فى ظل تفاهمات روسية - أمريكية. البعض يرى أنه يسرع للنهاية بما يقوم به من خطوات قمعية فى بلاده التى تواجه حرباً ضد إرهاب كان أحد مؤسسيه وضد الأكراد. ووصل الأمر بتوقعات البعض إلى وضع نهاية له بالاغتيال فى ظل تصاعد الغضب المعارض له حتى لو ظل غير معلن. بينما يتكهن البعض لبقائه لفترة تطول أو تقصر طالما أن مصالح الغرب فى المنطقة لا تزال بحاجة له فى سوريا والعراق والخليج وغزة.
يخطئ «بائع السميط» لو لم يقرأ التاريخ ولم يعِ دروسه مهما كانت ميكيافيلليته أو قدرته على التلون حسب المواقف. فهناك دوماً مواقيت لدفع الحساب.