الأخبار
ياسر رزق
«حلوة يا بلدي» .. نستطيع لو أردنا !
ثمة طاقة هائلة مخزونة في قلب الإنسان المصري، فقط تحتاج إلي تفجير، وتوجيه، ومجال تتدفق فيه، فتكتسح العوائق، وتبيد الصعاب، وتنطلق لتبدع.
هذه الطاقة الكامنة، عندما تتفجر وتتفاعل، فإنها تحقق مستحيلات وتظهر معجزات.
لا أدعي أني أعرف كنه هذه الطاقة، لكني أظنها مزيجا من حماس وإرادة وقدرة، معجوناً بمشاعر وطنية فياضة.
وحين فكرنا في دار «أخبار اليوم» في إطلاق حملة «حلوة يا بلدي»، كان هدفنا بجانب إعادة النظافة والجمال إلي شوارع العاصمة والمراكز والمدن وميادينها، ودروب القري وأزقتها، هو شحذ همم الناس للتغلب علي مشكلة تنغص علي المصريين حياتهم وتشوه بهاء مصر وحلاوتها. كان غرضنا الأول تحفيز روح العمل الجماعي بين المواطنين والجمعيات الأهلية والأجهزة الحكومية، تحت مظلة مؤسسة إعلامية وطنية كبري مملوكة للشعب، تدرك أن عليها دوراً ومسئولية في تنوير المجتمع وحشد طاقات أبنائه وإطلاقها في مبادرات تستهدف خدمة الوطن، تكون نموذجاً ومثالاً علي ما يستطيع المجتمع المدني بالتعاون مع جهات الدولة القيام به في التغلب علي مشكلات تبدو مزمنة وبلا حل!
< < <
للحق.. لم أكن أتوقع كل هذا النجاح لحملة «حلوة يا بلدي».
كانت تراودني تخوفات إزاء بلوغ أسبوع النظافة والتجميل الهدف المنشود، رغم ما سبق تدشين الحملة من تخطيط وإعداد وتنسيق علي مدار جلسات واجتماعات عديدة في دار أخبار اليوم وفي مركز معلومات مجلس الوزراء.
ربما كان مبعث التخوفات، كلام كثير يتردد عن حماس خبا وفتر، وشباب انزوي، وجماهير عزفت، وأجهزة حكومية لا أمل فيها ولا رجاء!
كنت أخشي ألا تجد حملة التوعية الإعلامية صدي واسعاً لها في الشارع، وأن تتغلب عليها دعاوي الإحباط والتيئيس والعدمية، كنت أتخوف من اقتصار المشاركة الجماهيرية علي بضع جمعيات أهلية ومبادرات شخصية، وأن تكتفي المحليات بالقاهرة الكبري لأنها أمام كاميرات الإعلام، أو في أحسن الأحوال تكتفي بتنظيف شارع رئيسي وتجميل ميدان كبير في عاصمة كل محافظة.
وكنت أتحسب من أن يختزل مسئولو الأحياء أسبوع النظافة في يومه الافتتاحي، ويتوقف جمع المخلفات بعد رحيل كاميرات التصوير.
لذا انصب حديثي مع زملائي في جريدة «الأخبار» علي أهمية المتابعة الدقيقة والأمينة كل يوم وفي كل مكان، والرقابة الإعلامية علي مجريات الحملة ومدي تجاوب الجماهير والأجهزة المحلية، ونقل الصورة بكل موضوعية وصراحة من كل موقع يوماً بيوم، وكشف أي أوجه للإهمال أو التقصير أو المظهرية.
< < <
علي النقيض من تلك التخوفات، جرت حملة «حلوة يا بلدي»، وفاقت نتائجها كل التوقعات.
في معظم المحافظات، لم تنغلق الحملة علي العواصم، بل امتدت لتغطي المراكز والمدن والقري.
استجاب المواطنون وتجاوب الشباب.
خرجوا مبادرين بالعمل بكل همة ونشاط في جمع المخلفات، ودهان الأرصفة، وغرس شتلات الأشجار في الحدائق وعلي جانبي الطرق، وتزيين جدران المنشآت والمدارس برسوم جرافيتي رائعة.
رأينا طلاب الجامعات، وأعضاء مراكز الشباب، وتلاميذ المدارس، جنبا إلي جنب مع سيدات ورجال من كبار السن، يحملون المكانس وفرش التلوين وأدوات الدهان، أو يهذبون الأشجار ويزرعون الورود مكان أكوام القمامة.
شاهدنا في مدن وقري، تجاراً وميسورين، من أبنائها، يوزعون علي الشباب «تي شيرتات» تحمل شعار الحملة، ويقدمون لهم العصائر وزجاجات المياه.
وجدنا رجال أعمال وأصحاب مصانع يبادرون بالتبرع بكميات كبيرة من علب الدهانات ومكانس الشوارع وأطنان من أكياس جمع المخلفات، لأجهزة المحليات ويسلمونها للأحياء.
فيض من الرسائل والمكالمات الهاتفية تلقيناها من جمعيات أهلية، ومن شركات، ومن جامعات ومن كليات الفنون، تطلب المشاركة وتسأل عن كيفية تنسيق جهودها مع الأجهزة المحلية.
< < <
في معظم المحافظات.. لم يكتف المحافظون بالجلوس في مكاتبهم وتلقي التقارير.. بل نزلوا إلي الشوارع يشاركون الجماهير، ويتابعون يومياً فعاليات الحملة.
في غالبية المراكز والمدن والأحياء وفي عدد كبير من الوحدات المحلية، خرج المسئولون يشرفون علي أعمال النظافة والرصف والتشجير والتجميل، ويباشرون التنسيق مع الجهود التطوعية لأعضاء الجمعيات الأهلية ومراكز الشباب وطلاب الجامعات والكشافة والمرشدات.
منذ دعونا إلي حملة «حلوة يا بلدي»، لم نجد غير الترحيب والتشجيع لهذه المبادرة من أعلي المستويات.
كان المهندس شريف إسماعيل رئيس الوزراء داعماً للفكرة، ومسانداً لها منذ اللحظة الأولي.
وكان الوزراء الثلاثة الأكفاء أصحاب الهمة المعنيون مباشرة بالحملة، يباشرون معنا علي مدار اليوم أعمال التخطيط والتنسيق والمتابعة لكل الجوانب.
الدكتور أحمد زكي بدر وزير التنمية المحلية، ظل طوال الأسابيع السابقة لإطلاق الحملة وطيلة أيامها، يتابع كل تفصيلية، ولم تنقطع الاتصالات بيننا لتذليل أي عقبات، وعكف مع المحافظين علي متابعة تقارير الأداء ونتائج الحملة في كل وحدة محلية.
المهندس خالد عبدالعزيز وزير الشباب والرياضة، أدار باقتدار منظومة مراكز الشباب علي مستوي الجمهورية وجمعيات الكشافة والمرشدات، لتحقيق المشاركة الفعالة الجوهرية البعيدة عن المظهرية طوال أسبوع النظافة والتجميل.
الدكتور خالد فهمي وزير البيئة وفر إمكانات وزارته وقدم كل العون لإنجاح الحملة.
أما الإعلام المصري الرسمي والخاص، فقد أبدي كل مساندة لحملة التوعية، وكل معاونة في متابعة مجريات الأسبوع بالمحافظات، ونقل صورة ما يدور علي الأرض إلي المشاهدين.
< < <
علي أن أهم ما أسفرت عنه حملة «حلوة يا بلدي» أنها حطمت تصورات راجت في الشارع المصري وعبر وسائل الإعلام، تكاد ترقي إلي مرتبة المسلمات.
كسرت الحملة الانطباع السائد عن الشباب المصري، بأنه إما منعزل في إحباط عما يجري في بلاده، أو أنه سجين الفضاء الإلكتروني ينفث غضبه عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
الشريحة الأوسع من شباب مصر، رأيناها ترحب بالحملة، تبادر بالمشاركة، تنزل إلي الشوارع، تحمل المكانس، وتجمع المخلفات، وتدهن الأرصفة والجدران، وتزاول طوعاً ودون مقابل أعمالاً «تتعفف» عنها في العادة مهما كان المقابل المادي.
شبابنا ينتظر الفرصة ليخدم بلده، وعلينا ألا نحرمه منها.
حطمت الحملة مقولة أن المجتمع المصري لا يعرف العمل الجماعي، وأن الإنسان المصري فردي بطبعه، يبدع كفرد، ويحجم مع الجماعة.
كان الكل معاً يداً واحدة، شباناً وفتيات، رجالاً ونساء، صغاراً وكباراً، بسطاء وميسورين، سكان مناطق وأعضاء جمعيات أهلية، مواطنين وأجهزة حكومية.
الناس لا تعزف عن المبادرات الجماعية، فقط تريد أن تعرف مكانها فيها ودورها والمطلوب منها مع الآخرين.
بددت الحملة -علي الأقل أمامي- فكرة تعميم الفساد علي كل المحليات. نعم البيروقراطية تعشش في دهاليز الأجهزة المحلية، والفساد يتسرب ويتغلغل في كثير من المواقع.
لكن هناك كثيرين شرفاء، يعملون من أجل بلدهم، بودهم أن يقوموا بما هو أكثر، يحتاجون فقط إلي إدارة رشيدة وتنظيم عمل وتنسيق جهود ومتابعة دءوب.
ثبت من الحملة أن أجهزة المحليات ليست عاجزة، ولا تعوزها الامكانات، فإذا كان لديها نقص، فإنها تستطيع تدبيره بالتعاون مع المجتمع المحلي. إنها تستطيع، لو أرادت!
< < <
انتهي الأسبوع، لكن الحملة لم تنته. بعض المحافظات مدت أسبوعاً آخر لاستكمال العمل.
نحن لن نكتفي بما تحقق، ولن نجلس لنتبادل التهاني بنجاح الحملة.
غداً.. سنعقد اجتماعاً عبر الفيديو كونفرانس، نتداول فيه: الوزراء د. أحمد زكي بدر والمهندس خالد عبدالعزيز والدكتور خالد فهمي، مع المحافظين، بمشاركة اللجنة العليا للحملة بدار «أخبار اليوم»، حول مجريات الحملة. نستخلص الدروس المستفادة، ونبحث كيفية تحقيق الاستمرار والاستدامة. استمرار النظافة والتجميل ومنظومة جمع المخلفات ونقلها وتدويرها. واستدامة الروح التي أطلقتها المبادرة في الشارع المصري.
الأفكار كثيرة، منها تخصيص يوم علي الأقل شهرياً وربما يكون أسبوعياً لدوام الحملة. ومنها كيفية تنظيف أسطح المنازل من المخلفات و«الكراكيب» التي تمثل عورة تسيء إلي صورة المدن وبالأخص العاصمة، وتشكل خطراً كبيراً علي سلامتها ومصدراً لإشعال الحرائق.
< < <
«حلوة يا بلدي» لن تكون مبادرة مقصورة علي النظافة والتجميل، نحن الآن بصدد إطلاق حملتين متتاليتين سنعلن عنهما تباعاً، الأولي خاصة بإعادة الانضباط والسلوك الحضاري إلي الشارع المصري، والثانية تتعلق بالحد من الاستهلاك وإهدار الموارد في المنازل وأماكن العمل.
ونحن منفتحون، علي أي أفكار تخدم هذا البلد وأبناءه.
إننا أحوج ما نكون إلي الاحتفاظ بقوة الدفع التي تولدت يوم ٣٠ يونيو، إلي إطلاق القوة الكامنة والطاقة المخزونة في قلب الإنسان المصري، إذا أردنا أن نحقق تطلعاتنا في مصر قوية مزدهرة قائدة، وأن ننجز مشروعنا الوطني بإيقاع متسارع في أقصر زمن.
كلمة السر هي استنهاض الهمم.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف