المساء
محمد جبريل
ع البحري .. ذلك الصباح من يوليو
أطل من نافذة المقعد الخلفي للسيارة. الميناء الشرقي إلي اليمين يمتد ما بين السلسلة وقلعة قايتباي. أمضي ـ من الخلف ـ إلي انحناءة الطريق في الشاطبي. أعبر بنايات المحكمة الوطنية. والنصب التذكاري للجندي المجهول يطل علي البحر من جانب. وعلي ميدان المنشية من الجانب الآخر. أخلف القهوة التجارية. ألتقي فيها أصدقائي من مبدعي الإسكندرية. الكازينوهات المتلاصقة حتي ميدان سعد زغلول.أرنو ـ بعفوية ـ إلي تمثال زعيم ثورة 1919 فوق المنصة الجرانيتية. قد أميل إلي قلب المدينة. شارع صفية زغلول يفضي إلي محطة السكة الحديد. تتفرع منها الشوارع إلي أحياء الإسكندرية القديمة حتي المكس وما بعدها. أو أميل إلي اليمين في شارع سعد زغلول. تتباطأ خطواتي أمام الفاترينات واللافتات وزحام المارة والباعة الجائلين. ومفارق الشوارع الجانبية إلي الكنيسة المرقسية والنبي دانيال والفلكي ومبني البريد وميدان المنشية. ربما أمضي ناحية اليسار إلي ميدان الرمل بملامحه المميزة التي لم يفلح الابداع ـ حتي "ميرامار" رائعة أستاذنا نجيب محفوظ ـ في تجسيدها. تعبيراً متفوقاً عن بقايا الكوزموبالينينية السكندرية. أمضي ناحية جامع القائد إبراهيم . أستعيد دوره المهم في حياتنا السياسية الحديثة. تحوله إلي بؤرة للثورة مشابهة لما أسهم به ميدان الرمل في الفترة منذ 1919 إلي ثورة يوليو. ملمحها الأهم انتفاضات المصريين ضد الاحتلال البريطاني عقب الحرب العالمية الثانية. أستقل الترام في توالي الأحياء. تشير اليها لافتات محطات الترام. حتي ميدان فيكتوريا. فالأحياء التي يبلغها الترام انتهاء بأبي قير. البيئة مشابهة لبيئة الصيادين في بحري. البلانسات والفلايك وصيد الجرافة والطراحة والسنارة. وعمليات الفصال والبيع يغيب عنها اكتمال العلاقة في بحري بين الأرض واليابسة. من خلال الروحية التي تهبها الجوامع والزوايا والمقامات والأضرحة والمزارات والموالد وفرق الصوفية. ربما أنزل من السيارة فأواصل السير إلي داخل بحري. الأندية التي تحرم المواطنين ـ تحت دعاوي مكذوبة ـ من متعة النظر إلي أفق البحر. تقصر علي أعضائها مساحات متلاحقة من امتداد الكورنيش الحجري. حتي مرسي القوارب. ظل معلماً للمدينة قبل أن يحل كوبري ستانلي بدلاً منه. أغالب الأسي لحصار ميدان أبو العباس بالأسوار الحديدية. وخلو الميدان مما كان يحفل به من مظاهر روحية. أستعيد دور الميدان في حياة المصريين الدينية والسياسية. منذ مطالع القرن العشرين. حتي ابتلعه فساد المحليات في صفقة مجرمة. أهدت بها معظم فضاء الميدان إلي من شيدوا فوقه بناية خرسانية. أفقدت أهل الإسكندرية ما كان أجمل ميادينها. أواصل السير حتي انحناءة الطريق الأنفوشي. أميل في اتجاه قلعة قايتباي بما تحمله من تأثيرات المقاومة ضد الهجمات الغازية حتي غزو الانجليز عقب ثورة العرابيين. أدخل حلقة السمك. تعلو ـ في غبشة الفجر ـ أمام البناية وداخلها. طبالي السمك التي قدمت بها البلانسات من أعماق البحر. تقل الحركة بطلوع النهار. لا يبقي سوي القلة من الباعة والفريشة. يعرضون ما بأياديهم علي من سرقهم النوم فتأخروا عن شرب دم الترسة الذي يرد العافية. أخلف ورائي قصر الثقافة ومركز الشباب وورش المراكب.
أشرد ـ أمام قصر رأس التين ـ في ذكريات بعيدة وقريبة. وان ألح علي الذاكرة ذلك الصباح في 26 يوليو 1952. وقفة الصبي الصغير أمام القصر. يتابع لحظات ما قبل إعلان الملك فاروق تنازله عن العرش.
أيام!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف