الأهرام
صلاح سالم
الإمام أبو حنيفة يرفض الخطبة المكتوبة
كان أحد الخلفاء العباسيين المتحمسين لفقه الإمام أبى حنيفة، قد قرر فى لحظة من تلك اللحظات التى تتألق فيها العلاقة بين الفقية والسلطان، أن يعمم المذهب الحنفى على أنحاء الخلافة، فمادام هو الحاكم الأوحد فليكن فقه أبى حنيفة هو المذهب الأوحد، الذى يدرسه الجميع فى مساجدهم، ويفتون به فى قضاياهم ويديرون به شئون حياتهم، مع حظر المذاهب الأخري، فلم يردعه عن ذلك القرار إلا أبو حنيفة نفسه، بسعة علمه وجميل خلقه ورحابة صدره، الذى يتسق وكونه إمام أهل الرأي، وهى مدرسة فى الفقه لو سادت فى تاريخنا ما كان حالنا اليوم هو ما نرى حولنا من ضيق أفق وتطرف وإقصاء وعنف. وفى وقت تشتد فيه حاجتنا إلى تجديد تديننا وليس ديننا، فكرا وخطابا، تكريسا للتعدد والتسامح وقبول الاختلاف، يفاجئنا السيد وزير الأوقاف بمبادرة فى الاتجاة المعاكس، أى بقرار توحيد خطبة الجمعة، وتوزيعها على جميع الأئمة، ليقرأونها مكتوبة على المصلين، كضمانة لضبط إيقاع الأئمة، والسيطرة على المساجد، من دون أن يدرى أنه يغلق باب الاجتهاد للمرة الثانية، كما كان فقهاء العصور الوسطى قد أغلقوه للمرة الأولي. والحقيقة أن الأمر ليس جديدا، بل يعود فى مبتدئه إلى مطلع هذا العام حين قامت وزارة الأوقاف بتوزيع منشور على أئمة المساجد التابعة لها بموضوع خطبة الجمعة، والذى حددته بـ (حرمة التظاهر فى 25 يناير) استنادا إلى فتوى من دار الافتاء تصف الدعوات إلى الخروج والتظاهر فى هذا اليوم بأنها «جريمة متكاملة ودعوات مسمومة ومشئومة تهدف إلى تخريب البلاد والقتل والتدمير» وتتهم من يطلقها بـ «توريط المصريين فى العنف والإرهاب لصالح أعداء الوطن».. إلخ. أما عقاب الإمام المتمرد فهو الحرمان من منحة مالية شهرية معتبرة كبديل صعود للمنبر، كان قد بدأ صرفها للتو فى هذا الشهر نفسه!. ما يعنى إخضاع هؤلاء الأئمة والخطباء لسيف المعز وذهبه، رغم إن مفهوم الوقف الخيرى قد نشأ من الأصل لتحرير هؤلاء من قبضة السلطة، وخطر العوز، فكأن الوزارة تعمل ضد منطقها وغاياتها.

يكشف هذا التوجه، سواء فى منشور يناير الماضي، أو قرار يوليو الحالي، عن المدى الذى تذهب إليه الدولة فى الاستخدام السياسى للدين إما تكريسا لمشروعيتها، أو ضبطا للخطاب الديني، عبر سبيل لا يمكن له أن يحقق هذا الهدف أو ذاك. فأى إمام سوف يتحمس للإطلاع أو المعرفة، أو الاجتهاد وقد فرضت عليه خطبة مكتوبة صماء، يلقيها على جمع يتهامسون عليه، أو يتندرون. وأى خطبة هذه سوف تصلح كل أسبوع لكل الأنحاء فى بر مصر، القرية الصغيرة كالمدينة الكبيرة، والمناطق الراقية كالمناطق العشوائية. وأى أفق لهذه الخطبة إلا أن تكون مثل الحملات الإعلانية القومية عن تنظيم النسل ودفع الضرائب وترشيد الإستهلاك، وغير ذلك من قضايا مهمة بالتأكيد ولكن المنبر ليس هو المكان المناسب لعرضها على الناس،

ليس مطلوبا فى الخطبة أن تكون نصا سياسيا معاديا للدولة، يملكه المتأسلمون، ولكن ليس مطلوبا كذلك أن تكون نصا بيروقراطيا تملكه الدولة، ففى كلتا الحالين نصبح أمام عملية توظيف للدين فى صوغ المجال العام. ومن ثم تثور تساؤلات عدة حول مدى جدية الدولة المصرية فى تأسيس مشروعية مدنية حديثة، تصادر ادعاءات الدين السياسي، بقدرتها على التنظيم الفعال للمجتمع، والإدارة الرشيدة لحركة الواقع، فقد يكون توجها كهذا مفيدا مؤقتا فى لجم بعض الخطابات المتطرفة، ولكنه سيؤدى فى النهاية إلى تغذية شرعية مضادة للدولة المدنية من طريق جرح ضمير المتدينين روحيا، ودفعهم إلى أحضان المتأسلمين سياسيا، فالدولة تتصور أنها الأقدر على توظيف الدين، ولكن المفاجأة غير السارة، هى أن الجماعات المسيسة أكثر قدرة منها على ذلك. لقد فعلها الرئيس السادات سلفا ودفع حياته ثمنا، غير أن دمه الغالى لم يكن قربانا كافيا لتوقيف جولات الثأر بين الدولة ومؤسساتها الدينية من ناحية، ومجتمع التأسلم السياسى والتدين الاحتجاجى من ناحية أخري.

فى توظيفها القاصر والمؤقت للمؤسسات الدينية، طالما انحازت الدولة إلى الفقيه التقليدى وهو من يحتبس دعوتها الى التجديد عن الجماهير، من خلال موقعه المركزى فى قلب نظامى التعليم الدينى والفتوي، ليبقى له هذا الموقع المائز فى الشأن العام، وذلك على حساب المفكر الحداثي، داعية العقلنة والعلمنة والتنوير، النازع إلى فض الاشتباك بين نظام الحكم ونظام الاعتقاد. إنها كثيرا ما تطلب دوره فى معاركها ضد الدين السياسي، ولكنها سرعان ما تتخلى عنه وتتركه فريسة سواء لرموز التأسلم، أو حتى للمؤسسة الدينية التقليدية، عندما تقتضى دواعى المهادنة ذلك. أما اليوم فإنها تقصى كل الفقهاء والدعاة، لصالح فقيه واحد أو عقل واحد مركزى سوف يقوم، ولو بمساعدة آخرين، بتحديد ما يقال وما لا يقال، بل وكيف يقال فى أهم لقاء دينى إسبوعي، فى كل أنحاء البر المصري، ما يعنى إحالة عقول الجميع إلى الإستيداع، وهو توجه خاطئ، يعطل كل مسارات التجديد الديني، خصوصا بعد ثورتين، يفترض أن يدفعا بالدولة نحو الإخلاص لمهمة الإصلاح، وهو ما يقتضى منها تسمح بنمو مراكز المجتمع الفكرية والأخلاقية المستقلة عنها، فعندها فقط تكتسب تلك المراكز مصداقيتها الذاتية، وتتحول بؤر إلهام وتنوير وتوجيه، من دون خطب معلبة أو دعايات خائبة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف