محمد جبريل
ع البحري .. الحنين لمكان.. لا أتبينه!
سرت فيما لا حصر له من الشوارع والميادين والحواري والأزقة والساحات والقاعات والردهات والغرف والممرات الضيقة. يملؤني شعور بالحنين إلي مكان لا أتبينه. هو أشبه بالمجهول الذي تغيب ملامحه. حين عدت إلي الاسكندرية أدركت أنها هي المكان الذي يتجه حنيني إليه. ميادينها. مساجدها. شوارعها. أحياؤها. بناياتها. قعدات الناس في الحدائق. وعلي الشاطئ في امتداد الساحل.
الاحساس بالاسكندرية "سكندريتي هي بحري" شعور يمتلك كل أبناء المدينة. شعور قوي. مسيطر. قد يفرض الجهارة والتقريرية. ويفرض من المبالغات والأخيلة والتصورات ما قد تغيب عنه الحقيقة أحيانا.
أحب بحري. لا لأنه الحي الذي ولدت فيه. ونشأت. وإنما لأن الناس الذين أحبهم يعيشون فيه "لم أكن أتردد في أعوام الصبا في النزول إلي الطريق بالجلباب أو البيجامة. وهو ما لم أفعله. في العمر نفسه. أوقات زيارتي لبيت عمتي بالمنيرة". ويؤنسني زحام الأسواق. وتلاصق الأكتاف. ونداءات الباعة. وتلاغط المساومات. والفصال. وأصوات الطيور داخل الأقفاص. ورائحة الكباب والفلافل. وصيادي السنارة والطراحة والجرافة وطبالي السمك في واجهة الدكاكين. ومرسي القوارب في يسار المينا الشرقية. ورفع الأذان "كم شاهدت من النافذة الخلفية المطلة علي جامع علي تمراز مؤذن الجامع وهو يصعد درجات السلم الحلزوني إلي أعلي المئذنة يسند جانب وجهه إلي راحته. ويعلو صوته مؤذنا للصلاة". وتصاعد الأهازيج والأدعية من مئذنة أبي العباس. ودروس المغرب في صحن علي تمراز. ومكتبة حمادة النن. وصافرات البواخر في المينا الغربية. وورش "القزق". وحلقات الذكر علي رصيف البوصيري. والموالد. والجلوات. وخيام الطرق الصوفية. والمجاذيب اللائذين بجدران المساجد. وباعة المصاحف والأوراد والكتب الدينية والمسابح في ميدان الآئمة. وتناهي آيات القرآن والاغنيات من داخل المقاهي. والبخار المتصاعد من أكواب الشاي. والحاوي. ونافخ النار. وألعاب البلي والنحلة والدوم. حتي العبارات المؤنبة والشتائم والمجاذيب والمتسولين. ولعلي أذكر ما نقله بيرم التونسي عن عالم انجليزي ــ لم يسمه ــ إن أبناء بحري ــ في القرن التاسع عشر ــ هم أرذل الناس علي وجه الأرض. وفسر التونسي معني الرذالة بمحاولات الأولاد إيذاء الغرباء عن الحي. وهو تصور يحدث في كل الأحياء الشعبية. وفي كل مدن العالم.
تؤاخذني ملاحظات علي اقتصار ما أكتب علي بحري. لا أتحرك ــ إلا قليلا ــ بعيدا عنه. إلي إحياء أخري. في الاسكندرية. أو إلي فضاءات أخري في مصر والعالم. أنا لا اتعمد اختيار بحري موضعا لكتاباتي. لكنه هو الذي يجعل نفسه سيدا علي هذه الكتابات: البحر والشوارع والميادين والأسواق والبنايات والجوامع والزوايا والأضرحة والمقامات والحدائق والمقاهي والقزق وحلقة السمك وقلعة قايتباي ومعهد الأحياء المائية ومرسي القوارب وصيد العصاري وسراي رأس التين. وغيرها من القسمات التي تشكل الشخصية المميزة لبحري.