جمال سلطان
ما الذي يقلق المؤسسة العسكرية ؟!
وجه الفريق أول صدقي صبحي الدعوة لأعضاء البرلمان للاجتماع معه والقيادات العسكرية في أحد فنادق القاهرة أمس ، وقال بعض أعضاء البرلمان الذين حضروا اللقاء ، وكانوا قرابة أربعمائة عضو ، أي البرلمان كله تقريبا ، قالوا أن الاجتماع امتد لقرابة خمس ساعات ، وأن القائد العام للقوات المسلحة عرض على الأعضاء المخاطر التي تواجه الوطن والتزام القوات المسلحة بالقيام بكامل واجباتها لحماية البلاد من المخاطر الأمنية ومن أي مخاطر أخرى بما في ذلك الهموم الاقتصادية ، مستعرضا الجهود التي يقوم بها الجيش في دعم الاقتصاد وإنجاز أعمال كثيرة في البنية الأساسية وغيرها . هذا الاجتماع هو الثاني في غضون أربعة أشهر على وجه التقريب ، وهو حدث لافت في تاريخ "الجمهورية" في مصر منذ تأسيسها ، فلم يحدث أن يطلب قائد الجيش الاجتماع بأعضاء البرلمان على هذا النحو ، لا في عهد عبد الناصر ولا السادات ولا مبارك ، فهذا مقصور على نشاط وسلطات رئيس الجمهورية ، كما أن قواعد الديمقراطية أن يدعو البرلمان قائد الجيش للاستماع إليه تحت القبة وليس العكس ، ولكن لأن البلد يعيش مرحلة انتقالية وقلقة بالفعل ، تمر هذه الواقعة بشكل عادي ، ومفهوم لدى الغالبية ، فبعيدا عن المهاترات واصطناع مواقف المزايدات السياسية ، فإن الجيش ما زال هو عصب الدولة ومؤسستها الوحيدة التي يمكن وصفها بالمؤسسة الصلبة وصاحبة القرار وصانعة القرار ، ومنذ الثاني عشر من فبراير 2011 عندما أجبر الشعب والجيش مبارك على التنحي عن السلطة ، والجيش يتحمل مسئولية القرار وعبء إدارة شئون الدولة ، وما زال حتى الآن يحملها ، رغم أن البلاد شهدت ثلاث رئاسات ، مرسي وعدلي والسيسي ، لكن في النهاية المؤسسة العسكرية كانت هي عصب السلطة وحقيقتها الكامنة ، وهي التي تحمل ـ بغض النظر عن تقديرات الصواب والخطأ في كل اجتهاداتها ـ مسئولية حماية الدولة من الانهيار . مصر تعيش حالة فراغ سياسي ومؤسسي غير مسبوقة ، وهذا هو الخطير ، دعونا نعترف بأن المؤسسية في مصر مسألة هشة ، لا يوجد مؤسسات مدنية ديمقراطية حقيقية قوية ومستقلة وعميقة الجذور ، في السلطات الثلاث ، والمؤسسات الهشة تغري أي مغامر أو أي قوة منظمة باختطاف الدولة وتأميم كل شيء فيها لحسابها ، وظهر بوضوح سهولة التلاعب بالمؤسسات الهشة في عهد مبارك وفي عهد مجلس طنطاوي وفي عهد مرسي وفي عهد عدلي منصور وها نحن نرى سهولة ترويضها والتلاعب بها في عهد السيسي ، وهذا وضع خطير ، وهو أحد معوقات مولد الديمقراطية واستقرارها في البلاد ، كما أعتقد أنه يمثل حاليا أحد أهم الهواجس التي تقلق القوات المسلحة ، وإذا كانت التحديات الرئيسية لمصر حاليا ، هي الأمن والاقتصاد ، فبوضوح كاف يمكن القول بأن المؤسسة العسكرية هي التي تحفظ تماسك الوطن في الجانبين ، ومع الاحترام لمنصب رئيس الجمهورية ، إلا أن هشاشة المؤسسية في الدولة تجعلنا نؤكد على أن النظام الحالي وأي نظام آخر في الوقت الراهن لا يمكنه أن يستمر بدون إسناد ودعم قوي وكامل من المؤسسة العسكرية . أخطر ما تواجهه مصر الآن هو الفراغ السياسي والفراغ المؤسسي ، ولنا أن نتصور ـ الآن ـ لو أن الجيش دعا القوى المدنية المفترضة لتسلم السلطة وإدارة شئون البلاد ، لندرك حجم الفوضى والتخبط وتبعثر الإرادة ، لا توجد قوى سياسية مدنية حقيقية وذات حضور شعبي في مصر ، باستثناء الجماعات الإسلامية بما فيها الإخوان ، وقد ثبت بوجه القطع وبالتجربة أنهم غير مؤهلين لإدارة الدولة أو حماية السلام الاجتماعي وأنهم يفتقرون إلى الخبرة السياسية وإلى الإيمان الحقيقي بالديمقراطية ، أين هو الحزب المصري الآن الذي يمكنه أن يتسلم إدارة شئون البلاد ويحقق الإجماع الوطني ، أين هو الحزب الذي يمكنه أن يحقق 50% أو أكثر من أصوات الناخبين ، ليمثل عباءة الوسطية الوطنية التي يطمئن لها المجتمع وتستقيم معها إدارة الدولة وشئونها . اجتماع المؤسسة العسكرية مع البرلمان مرتين خلال أربعة أشهر يعني في أحد وجوهه أن الجيش غير راض على الأوضاع في البلد ، وأنه يشعر بالقلق أو يشعر بقلق الناس المتزايد على الوطن ، خاصة وأن العنف الإرهابي والعنف الاجتماعي والعنف الطائفي يتزايد والاقتصاد دخل نطاق الكارثة ، الاجتماع يعني أن الجيش يريد أن يضع بقية الشركاء أمام المسئولية وأمام حقيقة الأوضاع ، وهذه خطوة جيدة ، وأرجو أن تتسع في المرحلة المقبلة لتشمل الطيف الأوسع المعبر عن البلد بكاملها ، من القوى المدنية وحتى الأحزاب بعيدا عن التصنيف والفرز بين موالي ومعارض ، وصولا إلى مراجعات شاملة لمرحلة الثلاث سنوات الماضية سياسيا واقتصاديا وإداريا وحقوقيا . التجارب التي شهدتها دول أخرى ، ودول أمريكا اللاتينية بشكل خاص ، تعطينا الدرس "الواقعي" بأن التعامل مع دور الجيش في السياسة أو شئون الوطن الداخلية ، مرتهن بالتطور الديمقراطي للبلاد ، وظهور نخبة سياسية عاقلة وواقعية ، وغلبة الحكمة السياسية على المزايدات والتشنجات والمراهقة السياسية ، ونجاح النخبة السياسية في الوصول إلى توافق سياسي مع المؤسسة العسكرية ، وأن ترسيخ الديمقراطية ـ كما عرفته كل التجارب الإنسانية الحديثة ـ يحتاج إلى مرحلة انتقالية لها خصوصيتها ، ولها استثناءاتها ، ولها تنازلاتها المحسوبة مرحليا ، ولها "ضماناتها" لكل الأطراف ، غير أن هذا لا يعني تعليق البدء في مشوار استعادة الديمقراطية وبناء المؤسسات بصورة جدية ووفق برامج زمنية محددة ، لأن هذا هو طريق الإنقاذ الحقيقي والوحيد ، وكل تأخير له يعني مضاعفة التكلفة على الجميع ، الجميع بلا استثناء .