علاء خالد
محمد خان.. المخرج الجوَّال
ربما أهمية "محمد خان"، بالنسبة لى، هو عدم حضوره كشخص داخل أفلامه. يقف وراء العمل ككل، ولكنه غير موجود فى بطل بعينه. لا تعرف أى شخصية تعبِّر عنه فى الفيلم ويحمِّلها رؤيته. هو مخرج بالمعنى الواسع، يجرى وراء أفكار يحبها، وهذه الأفكار والمعانى متناثرة فى أكثر من سياق وشكل للحياة، وأكثر من مذهب، وأكثر من طبقة اجتماعية. لذا يعتمد بشكل أساسى على صياغة أفكاره، أو توضيحها، من قوة علاقته بالسيناريو. وأعتقد بالنسبة لخان أن علاقته محورية بكتَّاب السيناريو، ربما هذه العلاقة هى التى شكلت تجربته فى الإخراج.
كنت أتساءل باستمرار عن الشخصية التى تمثله داخل أفلامه فلم أجد. كل أبطاله يمكن أن يمثلوه باختلاف طبقاتهم وثقافاتهم وميولهم، سواء كانوا رجالا أو نساء. فالفكرة الشخصية التى يحملها، أو التى ينحاز إليها، لها مجال إنسانى واسع تتحرك فيه وتأخذ منه نماذجها. وهى فكرة تعبر عن «رأى» فى الحياة.
ربما هذه الحدقة الواسعة التى يمتلكها «محمد خان» كانت رهانه على الاستمرار والتنوع والانتقال بين أكثر من عالم. وأيضا أتاحت له اختفاءه وراء أكثر من نموذج، بشكل لا تعود وتتعرف على فكرته الأصلية، حتى تتوه الفكرة الشخصية فى أعماله ويبقى الفيلم كساحة لتداول الأفكار بحرية تامة وبدون "تحيز ما" كأنها جزء مقتطع من حياة مستمرة.
دخل "خان" السينما من باب حبه لها كوسيط وصورة وليس كوسيلة للتعبير الشخصى. كان هناك شيء جوهرى ومباشر فى علاقته بالسينما أكبر من التعبير عن أزمته أو أفكاره الشخصية. ربما اكتشف أفكاره الشخصية، تاليا، عبر تجارب الإخراج والعمل مع العديد من كتَّاب السيناريو. لذا تكرار نوع من "الأزمات الثابتة"، التى تعبر عن
"الذاتية"، غير موجود بمعنى ما فى أفلامه، ولكن استبدل بها طيفا واسعا من الأحاسيس النادرة لأبطاله. ربما مجموع هذه الأحاسيس هو "الذاتية الجديدة" التى خلقها.
كانت صنعته الأساسية، أو انحيازه للمهنة، يتجسد فى التقاط هذه الأحاسيس الخاصة جدا لأبطاله، كشف العلاقات غير المكتملة بين الشخصيات بإيجاز شعرى وباحترام لخصوصيتها، وبدون ثرثرة. هو بارع للغاية فى التقاط هذا التفاعل الإنسانى المكتوم وإظهاره على السطح.
كان مفهومه للسينما يتلخص فى المتعة والفرجة والفكر، ورغبته فى أن يحبه الجمهور ويتفاعل معه، لذا يتعامل مع جمهوره داخل حيز اللعبة بدون أن يدفعه للتماهى مع أبطاله، لأنه هو لم يتلبس هذه الشخصية، فكلنا داخل حالة فرجة، لا يحدث فيها تماهٍ بشكل كامل، بل تماهٍ لساعات العرض، لذا هو مخرج غير تعليمى ولا يضع رسالة محددة فى نهايات أفلامه.
كان خان يكسر التماهى مع الحكاية بدون تغريب لها، أو خروج شكلى فنتازى على سبيل المثال، بل داخل الحكاية نفسها: مرارة الحقيقة، مرارة الواقع، مفاجآت الواقع، المصارحة غير المعلنة بين الأبطال، المعجزة الموجودة داخل النفس، كلها قامت مقام التغريب.
بالتأكيد كان "خان" يثق فى جمهوره ويعرف كيف يتحدث معه، وينتقى منه تجاربه ويطور نفسه من خلاله.
ربما لا يحمل "خان" إيديولوجية فكرية لها سمات ومبادئ واضحة أو محددة، ولكنه منحاز فى النهاية لمجموعة من القيم الإنسانية. وهنا الصعوبة، كيف تجعل هذه القيم الإنسانية لا تسحبك بانفتاحها، وبصياغتها الفردية، إلى شاطئ الرومانسية أو التعالى الأخلاقى بشكل ما؟
ربما "خان" ليس له مشروع فكرى واضح، أو أنه يسعى وراء نموذج معين للبطولة، أبطاله دائما متغيرون، ولكنه أيضا لم يأخذ الخيال إلى آخره. ظل بين التزامه بواقع ما، والمجال الواسع لمفهومه للسينما كخيال وأحلام ومشاعر ومتعة. بينهما كان عالمه، حيث تعيش فى انسجام تلك الشريحة الإنسانية التى تحب وتأمل وتتمنى الأفضل، وهى خصيصة مخرج كبير لم يفقد الأمل حتى النهاية.
حافظ "خان" على هذه العلاقة بين تمسكه بقيم إنسانية ليبرالية عامة، وفى الوقت نفسه الحرص على واقعية عالمه. ربما هذا التوازن تم من خلال قوة الحكاية وبساطتها فى آن، وطبيعة المجتمع الذى يمثلها، بجانب إضافاته الشخصية الذكية لهذا المجتمع، فهو يحوِّل أى سياق اجتماعي فى أفلامه إلى سياق "ما فوق اجتماعي"، ولكنه ليس متعاليا، عبر النماذج الفريدة التى يختارها ليروى حكاياتها.
يمتلك "خان" رؤية "ما بعد طبقية"، لم يكن يدافع عن طبقة اجتماعية أو عن ذات شخصية. وهنا مكان الاختيار والتجربة فى رأيى. يخلق عوالم مفتوحة تتداخل فيها الطبقات والنماذج الاجتماعية، تتيح لكل أبطاله الوجود والتعبير عن أنفسهم. كل مشاهدات حياته وثقافته ورغباته الشخصية وتجاربه هى المرجع الأصلى لانحيازاته.
المكان عند خان مرتبط بالحكاية وليس متعاليا عليها. حركة الكاميرا واكتشافاتها تتم فى الشارع، الشارع بمعناه الاجتماعى كساحة وجود واشتراك وتفاعل، وبمعناه الرمزى؛ هو عين المخرج الجوَّال، الذى يريد أن يصل بالرحلة إلى آخرها لاكتشاف جريمة، أو لملاقاة الصدفة، أو للتعلم، أو لرسم خريطة شعرية للمدينة. الشارع هو كتاب الحياة الإنسانية، بوصفه المحتوى لكل الأفكار، وجامعا لكل الطبقات، ورمزا لصعلكة إنسانية حميمة. الشارع ساحة التحقق للوجود.
السيحان بالكاميرا فى الشوارع، خارج الاستوديو، حيث العودة لمكان أصلى/ طبيعى لبناء الحكاية، وسواء كان هذا المكان الأصلى: الحارة أو المصنع أو القرية أو البحر. لذا المكان الخارجى الطبيعى يعتبر ضمن أساسيات رؤيته للسينما، لأن الحياة بمعناها الواسع تكمن فى هذا الخارج.
هناك رحلة فى العديد من أفلامه، على الطريق السريع، أو داخل المدينة، يعبر بها البطل ويصادف مفارقات حتى يصل، فهذا الخارج هو المكان الحقيقى للتجربة. المكان الداخلى مرتبط أكثر بممارسات خاصة ترتبط بهذا العالم غير المرئى لأبطاله.
يبحث محمد خان عن سينما بها بطولة، ولكن ليس بها نموذج. بطله فى مكان صراع أو تحقق وليس فى مكان محكوم عليه سلفا، لذا قراره لم يصدر بعد فى أبطاله، لذا تجدهم أحرارا وقابلين للأمل.
هناك بساطة فى تكوين أفكار أفلامه، يعتمد أساسا على الحكاية أو الحدوتة، ولكنها حدوتة محكمة، ليست سائبة، أو فاجعة، لها إيقاع حيوى تتحرك وتعبر عن نفسها من خلاله. لا يجرى وراء الأبعاد النفسية العميقة فى أبطاله، بل ينتشلهم منها لمواجهة أخرى، فأبطاله صراعهم فى الحياة، أو قل إن الزاوية التى ينظرون بها للحياة بها جانب متفائل، أكبر من أن يجعلهم يفكرون فى هذا الجانب الغارق فى اللا شعور. ولكن لا يعنى هذا أنه غير ملتفت لهذا الجانب الخفى فى أبطاله، ولكن يمنحه مساحة محدودة تبعًا لأهمية هذا الخفاء بالنسبة له.
أغلب أبطاله أذكياء، أيًّا كان وضعهم، يكررون أخطاءهم ليستمتعوا بالحياة أكثر.
يعتبر خان من آخر جيل يحمل سمات مشتركة وعلاقة بجمهور وتحولا لطبقات اجتماعية، "جيل الثمانينيات" ربما مصطلح "جيل" سينمائى سيخرج من قاموس النقد والدراسة بعد هذا الجيل.
لقد فقدنا مخرجا كبيرا بحق.