فى مكتبها بوزارة الخارجية كان اللقاء.. مكتب صغير قابع فى طرف الغرفة الواسعة وصالون يحتل الجانب الآخر، حرصت على لقاء جميع زوارها فيه، كأنها تمنحك مساحة من الحميمية والتواصل بلا افتعال.. ومن الوهلة الأولى تختصر المسافات!!.. فى مواجهة الصالون عدة صور فى براويز جميلة بعضها مع الرئيس نيلسون مانديلا.. والبابا شنودة.. والعديد من الشخصيات الدولية المرموقة.. كنت وغيرى فى انتظارها.
تأخرت بضع دقائع عن موعدها.. اعتذرت تليفونيًا بأن سائق سيارتها تأخر عن الحضور لأسباب خاصة فقررت أن تحضر فى مركب مع ابنتها!!
عندما أقبلت علينا مرحبة فى ود غير مصطنع.. رأيت فى ملامحها الأوروبية.. وابتسامتها المصرية البشوشة ثقة مطرزة بالتواضع.. وتلقائية تشع تألقًا.. وبساطة مغزولة برقى شديد.
تاريخ دبلوماسى متميز فى المحافل الدولية ممزوج بتجارب إنسانية واقعية بلا رتوش قادا خطواتها إلى إعلان مصر ترشحها لأهم وأرفع منصب ثقافى فى العالم.. مدير عام هيئة اليونسكو.. وكان هذا الحوار مع د. مشيرة خطاب.
• امرأة لا تعرف الظل!
• عندما يهجر أى مسئول المناصب القيادية عادة ما يتوارى إلى الظل.. بل أحيانًا يسكن فى عتمة الظلام.. إلا أن المتابع لمسيرتك بعد الخروج من الوزارة يلاحظ أنك لم تدخلى دائرة الظل أبدًا وأن دورك وعطاءك لم يتأثرا سلبًا، بل تزايد وتعاظم فى السنوات الخمس الأخيرة.. فما أسباب ذلك؟!
- تبتسم د.مشيرة خطاب فى تواضع قائلة: «إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً» بالفعل منذ خروجى من الوزارة وحتى الآن، فإن عدد المؤسسات العلمية والثقافية والبحثية التى دعتنى للانضمام لها تزايد وهذا فى تقديرى أصدق تقييم أن مسيرة عملى لم تتأثر صعودًا أو هبوطًا بالمنصب أو المركز الذى أحتله، بل إن ما أقوم به من عمل هو الذى أعطانى هذه السمعة الطيبة ليس فقط وطنيًا بل دوليًا.. فبعد خروجى من الوزارة فى فبراير 2011 سافرت لجنيف بسويسرا، لألقى الكلمة الرئيسية فى الاحتفال السنوى الذى تقيمه جامعة «ويستر» بعدها انتقلت إلى واشنطن بأمريكا وألقيت محاضرة فى مركز «وودرد ويلسون» وهو مركز دولى للباحثين وعرض عليّ أن أصبح «سنيور» فى هذا المركز.. وتواصلت الإسهامات فى الصين وواشنطن.. والعديد من الدول الأفريقية.. والأوروبية.
وما يسعدنى أنك لو اطلعتِ على العديد من الموسوعات والأدبيات العالمية ستجدين أن العالم يسجل ويشيد بأهمية القانون (126) لسنة 2008 وهو القانون الذى ينص على تجريم «ممارسة تشويه الأعضاء التناسلية للنساء» بالغرامة والسجن، وهو القانون الذى وضعته كتائب مؤلفة من البشر انبرت للدفاع عنه باستماتة عندما طالب البعض سنة 2012 بإلغائه كما دافع عنه ملايين من البسطاء الذين اقتنعوا بخطورة هذه الممارسة نتيجة الوعى الذى ساهمنا فى رفعه أثناء عملى كمسئولة عن الطفولة والأمومة.
لذا فأنا والحمد لله عرفت قدر نفسى بعدما خرجت من الحكومة وأصبحت لا أحمل سوى اسمى.. وأنا باعتز جدًا بالمشاعر الوطنية التى لمستها بنفسى على مواقع التواصل الاجتماعى بعد نشر خبر اتجاه مصر لترشحى لمنصب مدير عام اليونسكو وهو أرفع منصب ثقافى دولى.. فما نشر على هذه المواقع.. وفى وسائل الإعلام هو تعبير عن رأى الشارع بلا تذويق أو تنميق، لذا فأنا ممتنة جدًا لهذا الدعم الشعبى، وأنا إذا كنت قد حققت صيتًا دوليًا أو أحظى باحترام عالمى فهذا مرجعه ليس فقط لكونى دبلوماسية ولدى خبرة فى الأمم المتحدة والعلاقات الدولية، ولكن لأننى اشتغلت على أرض الواقع فى أفقر المناطق ومع الشعب الذى وثق فيّ وصدقنى واحترمنى واستجاب للدعوات التى نتبناها وندعمها.
أنا النهارده عندما أتابع المبادرات التى يقوم بها الشباب لدعم ترشحى أشعر أن هذا أعظم وسام على صدرى، فالشباب هم الأبطال الحقيقيون وراء أى إنجاز حققته والحمد لله الذى جعلنى أشعر كيف يرى المصريون والعالم مشيرة خطاب متجردة من أى مناصب.
• مسيرة حب
• وأنت على أعتاب مرحلة جديدة ومهمة فى مسيرتك العلمية والعملية التى بدأت بتخرجك فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية سنة 1967 عندما تقفين أمامها الآن ببعض من التأمل والتقييم ماذا تضعين عنوانًا لها.. وما هى أهم محطاتها.. وأخطر قضاياها وأعظم إنجازاتها.. وأصعب العقبات التى واجهتها؟!
- البداية الحقيقية للمرحلة بدأت منذ أن ولدت.. لأن الأسرة هى الأساس الحقيقى للإنسان.. «إزاى بتربى وأى القيم والمفاهيم التى تغرسها فى الوجدان والعقل».. وإذا كنا بنتكلم دائمًا عن دور الأم وتأثيرها العظيم فأنا أضيف إلى ذلك دور الأب فقد لعب دورًا مهمًا جدًا فى حياتى، فقد كنا صبيان وبنات، لكنه لم يكن يفرق بيننا فى المعاملة، بل على العكس كانت هناك أفضلية وانحياز للبنات، وكان دائمًا يشجعنا ويقول لنا «ليس لكِ سند فى الدنيا غير شغلك وسمعتك وهى نتيجة لفعلك وأخلاقك، لذا لابد أن تجتهدى وتتقنى ما تعمليه حتى تحققى ما تتمنيه».
لذا فأنا أعتبر أن رصيدى وسندى فى الحياة هو دعم الأسرة وحب الناس.. وعندما أنظر الآن لهذه المسيرة التى كانت صعبة.. صعبة جدًا جدًا لا أجد لها عنوانًا أصدق أو أدق من «مسيرة حب»، فمثلاً أنا توليت مسئولية المجلس القومى للأمومة والطفولة عشر سنوات كاملة.. وكانت مسيرة ناصعة.. كنا بنافس أرقى المؤسسات وكانت كوادر كثيرة بيتركوا العمل بمنظمات دولية لكى يعملوا معنا وخلال هذه السنوات العشر لم أصدر أمرًا إداريًا واحدًا.. لم أحل أى شخص للتحقيق!! تصمت د. مشيرة خطاب لتقول حبى الناس.. واحترميهم.. وساعديهم.. وامنحيهم الفرصة لإبراز كفاءتهم وتميزهم سيبادلونك الحب.. بالحب والتقدير، فلقد هبطت على هؤلاء الناس بالباراشوت فقد كنت وافدة جديدة عليهم لا يعرفوننى ولا يعرفون عنى سوى أننى كنت سفيرة مصر فى جنوب إفريقيا ومساعد وزير الخارجية.
كان البعض منهم ينظر لى باستغراب.. لكنهم احتضنونى وحبونى ومدوا لى أيديهم بالمساعدة واليوم عندما تطالعين «البوست» الصادر عن المجلس القومى لدعم ترشحى لليونسكو ستلاحظين أنهم حرصوا على إبراز نقاط مهمة تعزز مركزى وترشحى كذلك هؤلاء الشباب الذى ترينه هم شباب متطوع جاء بدافع الحب ليضعوا خبراتهم وحماسهم لصالح دعم هذا الترشح.. لذا فإننى أدين لهؤلاء الجنود المجهولين بالكثير من العرفان والوفاء والحب.
• تابوه!
بكلمات حرصت على التأكيد على كل حروفها تقول د. مشيرة خطاب عن أهم الإنجازات التى استطاعت تحقيقها خلال مسيرتها: تحقيق نقلة ثقافية لحقوق الإنسان، فمثلا محاولة تشويه الأعضاء التناسلية للأنثى «الختان» كان «تابوه» لا يستطيع أحد أن يضعه عنوانا ويتحرك أو يعمل تحت مظلته، لكن نحن نزلنا الكفور والنجوع التى كانوا يمارسون فيها هذه العادة المدمرة التى لا تمت للدين بصلة وتكلمنا معهم وعرفنا «هم بيعملوها ليه.. وخايفين من إيه.. ومبرراتهم»، وقدمنا لهم المعلومات الصحيحة والدينية الصحيحة فاقتنعوا.. وتوقفوا عن هذه الانتهاكات المشينة.. وبدأنا نعلم عن قرى توقفت تماما عن ممارسة هذه العادة بها.. وأتذكر أن الإعلان عن أول قرية حرصت الـ CNN على تغطية الحدث متصورة أن الناس حرصوا على الحضور متصورين أنهم سيوزعون عليهم أى مكافآت فلما توالى الإعلان عن القرى واحدة تلو الأخرى وتأكدوا بالفعل من جدية الحملة ونجاحها لم تعد الـ CNN تحرص على تصويرها أو الإعلان عنها، هذه النقلة الثقافية التى تبناها واقتنع بها ونفذها هم البسطاء وهم الأبطال الحقيقيون لأنهم كانوا يرتكبون هذه الجريمة خوفا من عادات وتقاليد صارمة وصادمة، لكنهم عندما عرفوا وأدركوا مخاطرها وأضرارها استطاعوا أن يساعدونا ويتصدوا لمواجهتها، بل إنهم شجعونا على المواجهة وأذكر أن النائب محمد العمدة يوم مناقشة البرلمان لقانون 126 لسنة 2008 الذى كان يجرم ممارسة هذه العادة بالحبس والغرامة أنه أحضر أمه وحماته وبناته وناموا فى الشارع أمام مجلس الشعب لكى يعترض على تجريم هذه الممارسة! فالأمر لم يكن سهلا، ولكن هذه النقلة الثقافية نقت الثقافة المصرية من هذه الممارسات وساعدت دول أخرى كثيرة لكى تحذو حذونا.
• نوعية التعليم هى الأهم
أما الإنجاز الثانى فقد كان فى مجال التعليم وهو توفير تعليم جيد النوعية وضعى تحت كلمة «جيد النوعية» مائة خط، خاصة أنه كان موجها للفتيات الفقيرات فى كفور ونجوع مصر، حيث أعطينا لهؤلاء البنات الحق فى التعليم الجيد الذى يضاهى أفضل المدارس وجعلنا وزارة التربية والتعليم تعتمد هذه المدارس التى حولنا كل مناهجها لأنشطة تجذب هؤلاء الفتيات الفقيرات وقمنا بتدريب المدرسات لهذه المدارس على ضرورة احترام البنت وتقدير ظروفها الصعبة، كما أننا بالإضافة لهذه الخطوة كونا لجنة القيم التى تضم قيادات من الأزهر ودار الإفتاء والكنيسة وأساتذة من جامعتى القاهرة وعين شمس لمراجعة جميع مناهج السنوات الست الأولى فى التعليم لإزالة كل ما فيها من تحيز.. سواء كانت هذه الانحيازات على أساس الجنس أو الدين، بل تحيز للزعماء وإنكار دور الشعب وقدمنا مقترحات ونفذت بالفعل.
• إقناع الكبار.. أصعب!
كانت الصعوبة الكبرى التى واجهتنى هى الإقناع وذلك لأن إقناع بعض الوزراء وبعض القيادات الحكومية أصعب كثيرا من إقناع الناس العاديين، وذلك لأن العادات والتقاليد تتحكم فى ناس كثيرة تقاوم أى تغيير مهما كان مستواها العلمى أو الثقافى، ويبدو أننا كلنا من نسيج ثقافى واحد، فأنا لا أنسى كم العقبات التى واجهتها عند طرح مشروع قانون الطفل، حيث وقعت بينى وبين المستشار ممدوح مرعى وزير العدل «خناقة كبيرة جدا» إلى أن استطعت إقناعه بعد مجهود جبار بالمشروع، لذا فإننى أنتهز الفرصة وأشكر المستشار ممدوح مرعى على دعمه ومساندته حتى إقرار القانون يومها قال لى وزير العدل: أنا النهارده أكثر اقتناعا وأعدك أنى أرد لك الحاجات التى أخذناها منك»، وكان يقصد أنه أدخل بعض التعديلات على القانون وأنا كنت متحفظة عليها، ولكن الأيام لم تسمح له بعد ذلك أن يحدث ذلك.
والدكتور مفيد شهاب عمل معى أيضا مجهودا جبارا، فعندما ذهبت بقانون الطفل لمجلس الوزراء، وكنت بروتوكوليا ليس لى الحق فى الذهاب للبرلمان وتقديم مقترحات، لكننى ذهبت وكان معظمهم متصورا أنها حاجة بسيطة يقرونها فى آخر الاجتماع، يومها د. مفيد قال لى: أنت عاملة ثورة ما أقدرش أوافق على القانون ده ولازم تتشكل لجنة خاصة لمناقشته، والحمد لله بالإقناع استطعنا نكسب ثقة النواب وساندونا لإقرار القانون والمرحلة دى علمتنى قيمة أنك تحترمين الآخر وتحترمين الخلاف فى الرأى، وتحاولين بكل إخلاص واجتهاد أنك تشرحى وجهة نظرك حتى يصلوا لبناء توافق، وإذا كان لى أن أضع شيئا فى سجل الإنجازات يستحق الفخر به، فإنه بلاشك نجاحى فى بناء توافق حول القضايا الصعبة والحساسة.
وهذا لم يتحقق إلا بفضل احترام الناس لى واقتناعهم بهدفى وأننى لا أبغى تحقيق أى مصلحة شخصية، بل الهدف هو مصلحة الوطن والشعب.
والإنصاف يفرض على أن أشير للدعم والمساندة التى حظيت بها سواء من الإعلام أو النيابة العامة.
فالإعلام ساندنا بقوة خاصة فى أعوام 2007 - 2011 فى قضايا تشويه الأعضاء التناسلية للأنثى «ختان» أو الحق فى التعليم فالأعمال الدرامية تبنت هذه القضايا.. وكذلك البرامج الحوارية «التوك شو» بعدما كانت متحفظة ومعترضة فى البداية، بدأت بالحوار والاقتناع تتبنى قضايانا وتروج لها، وبالتالى أصبحت مهمتنا أسهل عن ذى قبل، كذلك النيابة العامة ساندتنا بتنفيذ القانون وفى شرح وتفسير بنوده، والمستشار الجليل الرائع عبدالمجيد محمود النائب العام الأسبق ساندنا كثيرا، وهذا خلق ثقافة جديدة، فقد كانت الثقافة زمان مقصودا بها الفنون والآداب الراقية، لكنها اليوم أصبح مقصودا بها عادات وتقاليد الشعوب، ولابد من أن يتشارك الجميع فى خلق ثقافة جديدة قائمة على الوعى والتوافق، وأنا سأستغل حملة دعمى لتولى منصب مدير عام اليونسكو لأعطى صوتى ودعمى للعاملين فى حملة لا للختان فهذه جريمة لا يمكن السكوت عليها، ولقد كنت أقوم بهذا الدور بشكل شخصى حتى بعد أن تركت منصبى وأذكر أننى ذهبت للفيوم «بطولى» للقاء قرية كاملة بعد أن استنجدت بى فتاة صغيرة كانت مهددة بإجراء عملية ختان لها، والحمد لله أقنعتهم ومنعت هذه الجريمة، فأنا لا أحبط ولا أستسلم وعلى يقين أن الغد أفضل بإذن الله.
• علامة مضيئة
• من سماء الدبلوماسية - ذلك العالم المخملى - هبطت بالباراشوت على قضايا الأمومة والطفولة كوافدة جديدة قادمة من عالم غير عالم القطاع الأكبر من جمهورك المستهدف.. لتناقشيهم فى قضايا شديدة الحساسية والخصوصية. وتدعينهم لتغيير عادات وتقاليد توارثوها سنوات وسنوات.
وبعد شهور إن شاء الله قد تشدين الرحال من وطنك إلى منصة أهم منصب ثقافى فى العالم لتخاطبى العالم كله.. المتقدم والنامى، الغنى والفقير، وأنت ابنة حضارة عريقة ووطن يمر بظروف اقتصادية واجتماعية وثقافية مضطربة، فكيف تتعاملين مع كل هذه المعادلات المركبة والصعبة وكيف تفكين شفرة كل مرحلة لتحققى نجاحا بها؟!
- تبتسم د. مشيرة خطاب قائلة فى بساطة وتلقائية: أنا انتقلت لمجلس الأمومة والطفولة ضد رغبتى، أنا رحت بالدموع، واختلفت مع سيادة الوزير عمرو موسى ولم أتكلم معه لمدة سنتين لأنه نقلنى هناك فجأة، اليوم أعترف بأن أكبر علامة مضيئة فى حياتى هى الفترة التى عملت بها فى المجلس «10 سنوات».
وسبب اعتراضى حينها كان يرجع إلى أنه مجال لم أفكر فيه عمرى وكنت متخوفة من العمل مع «ناس كبيرة»، لها بروتوكول ونظام وأنا بطبعى متمردة وأحب أقول رأيى بصراحة، وفى الخارجية بيعلمونا إن وزنك من وزن دولتك.. ونحن دولتنا كبيرة ولها ثقل عظيم، وكنت متخوفة من أن أخضع لقيود، ولكن الحقيقة أننى لم أجد إلا كل احترام وتقدير وتركوا لى كل مساحة للحركة بلا قيود وكنت أتصرف بمنتهى الحرية والاستقلالية ولم يكن يحاسبنى إلا ضميرى.
وإن كنت تتساءلين عن كلمة السر، فالسر يكمن فى أن ربنا أعطانى قدرة على التواصل الإنسانى، ولما باعمل حاجة أحبها وأخلص لها، وأذكر أن الأستاذ مفيد فوزى قال لى مرة عند زيارته ضمن وفد ثقافى وصحفى لمدينة براغ وكنت حينها أصغر سفيرة مصرية تتولى هذا المنصب: أنت لديك قدرة على التواصل الإنسانى إلى حد الدخول تحت الجلد.. كذلك أنا تعلمت من الرئيس والزعيم العظيم نيلسون مانديلا وقد ربطت بيننا صداقة جميلة جميلة. «إن العظمة تعنى التواضع تعنى الصدق مع النفس.. ولا يأخذك الغرور والمظاهر فتنسى نفسك»، تصمت لحظات د. مشيرة ثم تواصل قائلة: أنت لا تتصورين بعدما خرجت من الوزارة سنة 2011، عشت فى مرحلة صفاء نفسى رائع، عرفت الناس بعيدا عن المداهنات وعرفت قيمتى عندهم بما أغدقوه عليّ من حب وتقدير، والدنيا راقت من حاجات صناعية كبيرة كانت بتشوش الرؤية.
أما عن التعامل مع المحافل الدولية والقضايا العالمية، فإن سنوات خبرتى الأكبر كانت فى الأمم المتحدة فقد بدأت عملى بها وعندى 21 سنة كعضو فى الوفد المصرى بالأمم المتحدة وترأست وفد مصر فى مؤتمرات كثيرة فى الأمم المتحدة، ورسالة الماجستير كانت من أمريكا ورسالة الدكتوراه من مصر وكانت عن الأمم المتحدة.
وأنا من الناس التى طالبت بتنظيم وتنسيق بين المنظمات التابعة للأمم المتحدة وكان المرحوم د. بطرس بطرس غالى هو أول من قدم خطة لإصلاح الأمم المتحدة عندما كان الأمين العام لها.
كما أننى على مدى 8 سنوات كنت خبيرا فى الأمم المتحدة بلجنة حقوق الإنسان، وتدربت وتعلمت كيف أحتكم لضميرى فقط وليس لانتمائى منذ أن أقسمت اليمين على أن أكون مستغلة وكنت أنظر على العالم بعين مجردة، وأعطى ملاحظاتى بلا أدنى مجاملات.. ولو قدر لى كمصرية أن أتقلد هذا المنصب الثقافى الرفيع فأنا أدرك تماما أننى أمثل ضمير الإنسانية ويجب أن يكون الهدف الأول هو تحقيق رسالة هذه المنظمة وهى بناء السلام فى عقول البشر من خلال المجالات التى تحكم عمل هذه المنظمة.
• السلام فى عقول البشر!
• التربية والتعليم والعلوم والثقافة والبيئة وحماية التراث هى الأطر الرئيسية لعمل منظمة اليونسكو وهى تحمل بين طياتها العديد من القضايا والملفات الشائكة فما هى رؤيتك المستقبلية، وكيف السبيل للوصول لتوافق عالمى يحقق مصلحة البسطاء والمهمشين لينالوا رصيدا عادلا منها؟!
- بحماس تجيب د. مشيرة خطاب: اليونسكو أهم منظمة عالمية اليوم وهى تحتاج لتضافر جهود العالم كله لتحقيق السلام العالمى وحماية العالم من الأخطار التى تهدده ففى ظل الموجة العاتية من الإرهاب التى يعيشها العالم الآن نحن فى أمس الحاجة لما جاء فى ميثاق إنشاء اليونسكو بعد الحرب العالمية التى مات فيها الملايين، هذا الميثاق أشار إلى أن دور اليونسكو هو بناء السلام فى عقول البشر، زمان كانت الحرب بين الجيوش ترصدها النظارة المعظمة حتى نعرف حجم جيوش الأعداء ومتى ستصل لحدودك، النهارده.. الحرب بزرار.. زرار لا تعرف متى سيضغط على هذا الزرار، فمهما حشدت الآن من جيوش لن تضمنى النصر!
لكن متى تضمنين النصر؟ عندما تؤمن الناس بالسلام وتسعى لتحقيق السلام وتعرف أن التعددية قوة.. والتنوع قوة، وأن خبراتك ثروة لى وخبراتى ثروة لك وأننا لو وضعنا أيدينا فى يد بعض سيتحقق الخير للجميع.
لكن لو اعتبرت خبراتك بإمكانياتك تهديدا لى وخطرا عليّ وأسعى للقضاء عليك فأنا سأخسر.
لذا فإن الاهتمام بالفكر والاستثمار فى التعليم والأطفال والشباب والنساء يمكنك أن تغير الكون وتحقق فائدة عظيمة يخلق وعيا ثقافيا يحمى التراث.. يحافظ على البيئة.. يجعل الناس تفكر تفكيرا علميا، فيملكون القدرة على الرؤية المتكاملة التى تحقق لهم مستقبلا أفضل فالفقر لا يعنى انخفاض الدخل، بل هو فقر جودة التعليم.. فقر الممارسة الثقافية.. فقر التمتع بالحقوق.. فقر المهارات.. والقدرة على التدرج بالسلم الاجتماعى.
لذا فإن أهداف التعليم أن يسعى لتسليح الطالب بمهارات تمكنه ويصبح قادرا على ممارسة التنافسية ليس فقط على المستوى المحلى، ولكن أيضا على المستوى الدولى.
كذلك إتاحة الاكتشافات الحديثة فى العلوم والتقنيات وتكنولوجيا المعلومات للقاعدة العريضة وألا تصبح حكرا على الأغنياء فقط.
فأنت اليوم باستخدام وسائل التواصل الاجتماعى أنتقل فعليا وليس جسمانيا من داخل بلدى إلى دول العالم كله، لذا فتنافسك ليس على المستوى الوطنى، ولكن يجب أن يكون على مستوى العالم، انزع القيود من فكرك واستفد من الإنجاز العالمى، وأفد العالم بإنجازك.
وأنا اليوم أستحضر خبراتى فى إعداد الخطط وحشد الموارد لتنفيذ هذه الخطط، كما أستحضر خبراتى وقدراتى لبناء التوافق، أنت عند اختلافات وخلافات فى الرؤى بين الدول لابد أولا من احترام هذه الاختلافات والسعى ثانيا لبناء قاسم مشترك أعظم.. وقاسم مشترك أدنى بين هذه الدول للتحرك المتنامى، وضعى خطا تحت كلمة «التحرك المتنامى» بمعنى أننى قد لا أستطيع تحقيق كل الأهداف اليوم، لكن ستظل هناك أعمال متنامية كل سنة «باشوف أنا كنت فين السنة الماضية وأصبحت فين السنة دى».
أستفيد بأكبر قدر من الموارد المحلية والدولية، وأرصد الأداء ودائما عينى على المشاكل، وليست على الإنجازات، وهذا لأن هدفى هو أن أصعد لأعلى وأحقق نتائج أفضل.
أستحضر كل هذا بجانب ما أمثله من عمق تاريخى كمصرية فأنا بنت مصر المسلمة المسيحية اليهودية، صاحبة الحضارات التى دخلها الرومان واليونانيون والأرمن والحملة الفرنسية والاحتلال البريطانى والمد المتطرف الدينى.
كل هذا التاريخ الحافل والعمق الحضارى يمنحنى كمصرية حتى النخاع صلابة وصبرا تمكننى من أن أعظم نقاط الاتفاق وأقلل من نقاط الاختلاف، هذه هى الرؤية التى سأحتكم لها إن شاء الله، بالإضافة إلى أن عينى ستكون على الغالبية الكاسحة من الشعوب التى من حقها أن يكون لديها أمل أن تخرج من دائرة التهميش إلى دائرة التمكن بكرامة واحترام، وهذا لا يتحقق بأن أمنحها المساعدات، فالمساعدات تخل بكرامة الإنسان، لكن أنا أعلمه جيدا وأتركه ينافس هذا هو التمكين.. وهذا هو الاحترام.
• وصاية دولية!
• البعض ينزعج بشدة من تعبير «المعايير الدولية» ويعتبرها نوعا من الوصاية والهيمنة العالمية التى تهدد الهوية الوطنية أو الدينية أو الإقليمية لكثير من الدول فهل هذه المعايير من شأنها تهديد ومسخ الخصوصية بالفعل؟ وكيف السبيل للمواءمة ما بين الهوية والعالمية؟!
- هذا سؤال فى الصميم، هكذا بادرتنى د. مشيرة خطاب واستطردت قائلة: البعض يظن أن هناك دولة أو دولا تهيمن على العالم وتملك من السلطات ما من شأنه فرض الوصاية على الدول، وللأسف هذا الكلام لا يصدر إلا ممن يجهل كيف توضع هذه المعايير وكيف تصاغ ويتناسى أهم حقيقة بأن الأمم المتحدة تعنى الإرادة المجتمعية لدول العالم وجامعة الدول العربية تعنى الإرادة المجتمعة للدول العربية، وكذلك الاتحاد الأفريقى يعنى الإرادة المجتمعة للدول الأفريقية.
فإذا ما قبلت دولة ما بمعايير دولية فهذا معناه أن ممثلى هذه الدولة قد وضعت المعايير الخاصة بها وقدمت مقترحات وتعديلات ومناقشات، وهذا يستغرق أحيانا سنوات إلى أن تتفق جميع الدول على شىء واحد يقبله الجميع، ولو لم يتفقوا لا تقر، بل إنه حتى لو أقرت ولم يوافق عليها ويصدق عليها برلمان هذه الدولة فإنها لا تنفذ.
وهذا ما حدث معنا فى مصر، ففى دستور 2012 تم إلغاء المادة الخاصة بالاتفاقيات الدولية واحترامها، بينما دستور 2014 أعاد لمصر احترامها كدولة مؤسسة للأمم المتحدة، ودولة فاعلة فى وضع وصياغة هذه المعايير.. والاتفاقيات هى التى تضع المعايير.. والدبلوماسية المصرية لا تقتصر على الخارجية المصرية فقط، ولكنها تضم أكثر من مندوب من الوزارات المعنية إذا نحن من نضع المعايير وأى دولة تحترم نفسها عندما تصدق على أى اتفاقية دولية، فإن هذا التصديق يتم من قبل مجلس الشعب أو مجلس النواب أى أن الشعب أقرها ووافق عليها بعد أن تمعن فى بنودها ووافق عليها تماما.
• وسام على صدرى
• مع تداول أخبار عن نية جمهورية مصر العربية فى ترشيحك لمنصب مدير عام اليونسكو تبارت جهات عديدة حتى قبل الإعلان رسميا عن هذا الحدث فى دعم وتأييد د. مشيرة خطاب فماذا يمثل لك هذا؟
- تبتسم على استحياء وتقول د. مشيرة: هذه الحملة لن تكون للترويج لمشيرة خطاب، بل هى ستكون حملة للترويج لمصر، وهذا التقدير هو وسام على صدرى، ويعطينى الأمل أننى سأكون على قدر هذه المسئولية العظيمة.. والمرشحون الآخرون من الدول العربية لهم كل الاحترام والتقدير وإن شاء الله نتوافق على مرشح عربى واحد فالمجموعة العربية هى المجموعة الجغرافية الوحيدة التى لم تصل لهذا المنصب منذ إنشاء المنظمة، لذا من الأفضل أن نتحد لأننا لو تفرقنا وتعدد المرشحون سيصعب علينا أن نفوز بهذا المنصب، وهذه ستصبح خسارة للمجموعة العربية كلها، وأنا فى حملتى سأحرص على ضرورة بناء ثقافة داعمة للسلام، مع التركيز على التعليم، والاستثمار فى البشر.
ولابد من أن نعترف بالتنوع وأن الاختلاف لا يفسد للود قضية، ولابد من احترام التنوع والخلاف بين البشر وآرائهم فى ظل معايير أخلاقية وضوابط تحترم الآخر.•