آخر ساعة
سلمى قاسم جودة
إبليس من فاوست إلي جلد الأسي ونوس.. شيطان منتهي الصلاحية
الشيطان لم يعد له عنوان.. تلك هي المأساة التي نكابدها الآن خرج من القمقم العتيق.. المألوف.. الصدئ.. يرمح ويربح إلي حين.. يتقن المراودة، واقتراف غير المتوقع، فعرفنا الرشوة الحلال والقتل المقدس، أما الكاتب عبدالرحيم كمال في مسلسل ونوس فقدم رؤية قديمة، فها هو الشيطان القابع في الكباريه، الكامن في زجاجة البيرة، المتربص علي مائدة القمار بينما الخطورة الشاهقة أنه صار أيضاً في كوب الماء الملوث في لبن الأطفال، في رشفة العصير والغذاء المسرطن في قبضة نار وجحيم غياب الضمير وفناء الذمم، صار الشيطان يقيم حيث لا نتوقعه يباغتنا في المستشفيات، في فصول التلاميذ الأبرياء، يوسوس فيتبعه الغاوون، آه عندما يصبح إبليس هو الونيس! الونّوس! القرين والنديم المزمن فخرج من صالات الكباريهات في أفلام الأبيض والأسود ليختلط بالماء والهواء الذي نتنفسه ليعيث في الأرض فسادا وخرابا، والشيطان الآن يعظ في بيوت الله أحيانا وهذا ما أبرزه بشكل عابر المؤلف عبدالرحيم كمال ولكن المعالجة كانت تجنح للسذاجة و(الديجافوه) أي تكرار ما رأيناه بالرغم من جاذبية تيمة التعامل مع الشيطان في الإبداع فكان فاوست لجوته عن الأسطورة الشهيرة ألف ليلة، عهد الشيطان لتوفيق الحكيم وعزازيل ليوسف زيدان، لوحة دوريان جراي لأوسكار وايلد، جلد الأسي لبلزاك وأكان لابد يا لي لي أن تضيئي النور ليوسف أدريس والقائمة شاهقة ويبدو أن المؤلف لم يستفد منها ولم ينقذه في تلك الدراما سوي عظمة أداء النجم يحيي الفخراني.
لا أحد يموت موتة ربنا سبحانه وتعالي في دراما رمضان هذا العام الأغلبية تقتل! الرصاص، الذبح، السم ويبدو أن التأثير الجامح للربيع الإرهابي الشهير بالربيع العربي قد أضفي بظلاله الدموية، الشريرة علي سوق الدراما وأحيانا دراما السوء باستثناء بعض الأعمال الشاردة عن المجموع ومازالت تثير الجدل.
عزازيل أو الشيطان غادر الأمكنة التي التصق بها طويلا وكثيرا ليعربد ويغوي الخلائق ليمتزج بأنفاس البشر والشيطان أو (ديابولوس)، باليونانية واللاتينية تعني المفرق، المقسم فهو يزرع الفرقة الرجيمة ومنها يندس ليدمر، فقوي الشر تسعي دوما للتقسيم، التفتيت، الكراهية سواء في محيط الأسرة أو الأوطان ومن ثم كان طوق النجاة لمصر في تلك السنوات العجاف الحفاظ علي السبيكة الوطنية وكما سطر توفيق الحكيم في عودة الروح، الكل في واحد لمواجهة المكائد والمؤامرات، فإبليس هو في أصل اللغة إذن المقسم الرجيم وهذا ما نرصده اليوم في تركيا بفعل عبيد السلطان لاحريمه! الشيطان اليوم يا أستاذ عبدالرحيم تحرر من أسر القمقم، يتجول بحرية مطلقة فتارة هو في (جادة ممشي الإنجليز) بمدينة نيس البحرية، المليحة يقترف المجازر المعنونة بضلال مبين باسم الدين، ننازله علي أرضنا من خلال الأبطال في الجيش المصري والشرطة، نقاومه في الأوبئة المتفشية بفعل غياب الضمير، ويذكرني الرئيس السيسي في بحثه عن الشرفاء لدحر الفساد بالفيلسوف اليوناني ديوجين حيث أخذ مصباحه الشهير ليضيء له سفرته من أجل البحث عن رجل واحد شريف!! أنا لا يقلقني حجم الفساد فالمهم الكشف عنه ومحاربته، وأذكر في لقاء لي مع العظيم نجيب محفوظ حيث قال لي بضحكته المجلجلة إن مصر فيما مضي لم تكن تعرف الفساد إلا قليلا وأن موظفا واحدا اختلس مبلغا من المال كانوا يتندرون به لوقت طويل، في قصة أكان لابد يالي لي أن تضيئي النور، للدكتور يوسف إدريس تلك السطور العميقة البليغة أنا الذي جاء يطرد من هنا الشيطان وتضاءلت طموحاته حتي أصبحت مجرد أن يبعد فقط عن نفسه الشيطان، وعن أوكاره وتنكراته؟ أجد نفسي هذا الفجر في الشرك.. تماما في الشرك.. أنا الذي أردت هزيمته في الناس أجري خوفا من أن يهزمني في نفسي، »ولكن عذري ياشيطان.. أنك كنت تعرف أين كنت أنا.. ولم أكن أعلم أنا من أنت.. ولا أين أنت وكم نقشوا علي قلوبنا الأخطاء عنك حتي ارتسمت في أذهاننا دائما رجلا.. بشعا ولم يفكروا أن يقرنوك بالجمال مرة مع أنك لا يحلو لك التربص إلا محاطا بالجمال وإلا علي هيئة ست، وإلا في أكثر الأماكن نعومة وإمتاعا وفي أحلي البسمات.. بل أحيانا في النكتة في أروعها تنصب الشباك»‬ تلك هي استغاثات الشيخ عبدالعال الذي وقع صريعا لإغواء لي لي ذات الشعر الأصهب المستعر والجسد الأشهب المضيء.. يقول: »‬خائف أنا.. أنا خائف لا من الشيطان.. خائف من نفسي أخاف من نفسي؟ أجل. سأنظر وسأعاود النظر سأرتكب الذنب الأصغر.. ليتعاظم انتصاري علي الذنب الأكبر، نظرت.. هي لي لي بالتمام… هي الشيطان كاملا غير منقوص فالإغراء فيها كامل غير منقوص.. نائمة هي تتقلب جسدها فاتر.. يغلي.. ما أكفرني حين تصورت أني وحدي أقهر الشيطان.. أنت لا شيء.. وحدك أنت أضعف من دابة، وبالناس وبالله وبما فيك منه أنت الأقوي.. يا رب».. وتقول شهرزاد لشهريار في (ليالي ألف ليلة) لنجيب محفوظ: »‬لقد تبت يا شهريار فأجاب ولكن الشيطان لم يتب»..
هناك دوما في شيطان الأدب صفقة، عهد وعقد يتم بينه وبين الإنسان فنجد في فاوست مقايضة بدافع المعرفة، ونجد في (دوريان جراي) صفقة مع الشيطان من أجل احتفاظ البطل بأبدية الشباب والجمال بينما تشيخ وتهرم فتصبح ناضحة بقبح روحه الشريرة اللوحة أو البورتريه الخاص به، أما في (جلد الأسي) لبلزاك هناك قطعة من الجلد العتيق في حوزة البطل كلما تحققت إحدي أمانيه أو شهواته تتقلص تلك القطعة الشيطانية لتنتقص من عمره المهرول للفناء تحت وطأة أحلامه الجامحة، أيضا هناك الشيطان والأنسة بريم لباولو كويلهو (جحيم) دانتي والشيطان قد يكمن في التبريرات وأحيانا التفاصيل الصغيرة في الفضول الشره، في الخطايا السبع كما أبرزها عبدالرحيم كمال وأعتقد أن تكرار التعامل مع المبدع يحيي الفخراني قد يؤدي إلي الاستسهال حيث يكون النجاح المضمون فالفخراني يشرق دوما، ولكن لمزيد من الإشراق وجب التغيير ولو لفترة، ففكرة متلازمة الشيطان مع الراقصة والحانة والمائدة الخضراء انتهت صلاحيتها لأنها أقرب إلي الكلاشيه والأخطر هو الشر المضلل، المتنكر، ليس الشيطان علي طريقة أفلام لولا صدقي واستيفان روستي ولكنه وباء خبيث متلون، عميق، كامن تحرر من عنوانه القديم، البالي، فلم يعد (سفير جهنم) ليوسف وهبي ليواكب الزمن وفداحة الشر أو موعد مع إبليس لمحمود المليجي نستمتع بالمشاهدة حتي الآن ولكن الجديد يقتضي رؤي أعمق وأكثر خيالا وطزاجة، أيضا فيلم (المرأة التي غلبت الشيطان) لتوفيق الحكيم في السبعينيات، وفي السينما العالمية أبدع آل باتشينو في (محامي الشيطان) أو الدفاع عن الباطل، الشر والضلال، وأذكر (أومن) ثم (الأجزورسيزم) وكان الفيلم الأشهر لبولانسكي (ابن روزماري) أو (ابن الشيطان).. اليوم نحن في محنة عاتية فالشر تجاوز كل حدود الخيال، الوحشية المتعملقة وإضفاء الفضيلة علي جرائم تدنس الإنسانية جمعاء وبلاد تترنم بحقوق الإنسان وهي غارقة في أفعال شيطانية رجيمة سترتد باللعنات علي فاعلها، وكل غارق في أبلسة الآخر محاولا إبادته تارة باسم العقيدة وتارة باسم الديمقراطية، أما الإمبراطورية المدججة بالقوة المارقة فتذكرني دوما بقصة د.جيكل ومسترهايد لستيفنسون حيث تصدر ظاهريا الوجه الطيب لجيكل الطبيب المرادف للحلم الهوليوودي أما الكابوس الواقعي فهو الشرير مسترهايد الذي انتصر بشره علي د.جيكل الذي تماهي مع طموحه المجنون فكانت الازدواجية المدمرة للنموذجين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف