البديل
محمد سعد عبد الحفيظ
لعنة الكنيسة تنزل على النظام
منذ أن أطلق الرئيس المؤمن أنور السادات، صيحته الشهيرة “أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة”، ليغازل بها أصحاب اللحى الأزهرية والجماعاتية، ونار الفتنة الطائفية لا تكاد تخمد حتى تستعر وتعاود الاشتعال، لتأكل جسد الوطن المنهك.

بعد أن مرت عاصفة شروع نظام السادات في تطبيق الشريعة الإسلامية على الأقباط حتى في أحوالهم الشخصية، وتسرب إلى الإعلام مواد “قانون الردة”، اتهم مؤسس “دولة العلم والإيمان” بطريرك الكرازة المرقسية الراحل الأنبا شنودة، بمحاولة صنع زعامة سياسية للأقباط، وأنه يسعى إلى تأسيس دولة مسيحية في صعيد مصر تكون عاصمتها أسيوط، فضلا عن استقوائه بـ”كارتر” رئيس أمريكا.

اتهامات السادات لبابا الأقباط، جاءت بعد رفض البطريرك إرسال وفود مسيحية لزيارة القدس عقب اتفاقية السلام مع العدو الصهيوني، وانتهى الأمر بعزل شنودة من البابوية، وتعيين لجنة خماسية لإدارة الكنيسة، وتحديد إقامته في دير وادي النطرون.

إهدار نظام السادات لقواعد الدولة المدنية ولعبه بنار الطائفية، دفع الأقباط إلى التقوقع داخل أسوار الكنيسة، وتأسيس وطن مواز، بهيئات ومؤسسات وزعامات بديلة، وهو ما أحدث شرخا في المجتمع المصري، لم يُجبر هذا الشرخ، بمقتل مؤسس دولة العلم والإيمان بأيدي أبنائه المؤمنين، بل حدث العكس، واتسع الشرخ بانتشار أفكار الفقه الوهابي القادم مع البترودولار الخليجي في شوارع المحروسة، ومع الوقت تحول الملف القبطي إلى ورقة تلعب بها الأجهزة الأمنية، تستخدمها في بعض الأحيان كقنبلة دخان للتغطية على إخفاقات النظام الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية.

مع عودة شنودة إلى كرسي البابوية، زادت عزلة الأقباط، حيث عمد البابا إغلاق باب الكنسية على شعبه، وتحكم سلوك الأقلية المضطهدة في تحركات الأقباط ومواقفهم السياسية، ووقعت الكنيسة شيكا على بياض لنظام مبارك، وحوّل البابا شعبه إلى بطاقات اقتراع محسومة لصالح الحزب الوطني والنظام الذي دخل في معركة مفتوحة مع جماعات الإسلام السياسي، التي استحلت دماء وأموال “عباد الصليب وأحفاد القردة والخنازير”.

عقد شنودة غير المكتوب مع دولة مبارك، نص على “التأييد وغض الطرف عن بعض الأخطاء، مقابل الحماية وكوتة متدنية في وظائف الدولة”، إلا أن هذا العقد لم يستمر طويلا، حيث لم تلتزم دولة “المخلوع” ببنوده، وتخلت عن حماية الكنيسة وشعبها، بعد أن حسمت معركتها مع “الجهاديين.
ضاق صدر البابا الراحل بألاعيب الأجهزة، وبإشعالها نار الفتن من آن إلى آخر، وإصرار الدولة على تعليق عدد من الملفات الشائكة، أبرزها “قانون بناء دور العبادة الموحد”، وهو ما دعاه إلى استخدام سلاح الاعتكاف أكثر من مرة.

قطع حادث تفجير كنيسة القديسين عشية عيد ميلاد عام 2011، الذي راح ضحيته أكثر من 25 قبطيا، ما تبقى من خيوط ربطت الكنيسة بنظام مبارك، وتم تداول أخبار عن ضلوع وزير الداخلية آنذاك، حبيب العادلي، في تدبير الحادث، وتم تكليف مجموعة خاصة بتنفيذ حادث من شأنه تكتيف الأقباط وإخماد احتجاجتهم وتهدئة نبرة البابا شنودة تجاه القيادة السياسية.

نزلت لعنة الفتنة على نظام مبارك، الذي أهدر قيم دولة القانون، ولعب بنار الطائفية، فسقط رأس النظام بعد أيام من مظاهرات الأقباط الحاشدة في شوارع القاهرة، فيما استمرت أجهزته التي لم تطالها الثورة، تستخدم نفس آليات ما قبل 25 يناير، وزاد الطين بلة، دخول السلفيين على خط الأزمة، إما بإشعالها والهجوم على الكنائس وإحرقها، أو بحضورهم جلسات “تقبيل اللحى” مع القساوسة بديلا عن العمائم الأزهرية، وبلغت الأزمة ذروتها في مظاهرات الأقباط بـ”ماسبيرو”، وتعامل معها “المجلس العسكري”، بعقلية العادلي وأجهزة مبارك، فرحل تلاحقه نفس اللعنة.

رحل شنودة، وترك شعبه في عهدة نظام الإخوان، الذي يتعامل مع الأقباط كمواطنين درجة ثانية غير كاملي الأهلية، وإن لم يجهر بذلك، فشارك المسيحيون مع غيرهم في مظاهرات إسقاط حكم الجماعة، وتعلقوا بقشة “30 يونيو”، فنالهم ما نالهم، جزاء انحيازهم لـ”المخلص”، الذي وعدهم بإعادة حقوقهم المسلوبة وبناء كنائسهم المحروقة، والاحتكام لدولة العدل والمساواة في أي أزمة طائفية قد تطرأ.

لم تتحقق وعود المنقذ، واكتشف الأقباط مع الوقت أن نظام السيسي لا يختلف عن أسلافه، ففي محافظة المنيا وحدها بلغت حوادث الاعتداء على الأقباط 37 حادثا، وفقا للبابا تواضروس، الذي نفد صبره وبدأت لهجته تتغير تجاه النظام الذي شارك في وضع قواعده.

التقارير الأمنية المرفوعة إلى الرئاسة، حذرت من تصاعد الغضب القبطي، الذي وصل إلى حد أن القمص مرقس عزيز، راعي إحدى الكنائس القبطية بالمهجر، يلعن اليوم الذي انتخب فيه الأقباط السيسي، عزيز قال في مقطع فيديو موجهًا حديثه للرئيس: «السيسي أسوأ رئيس جمهورية.. اتخدعنا فيه.. دخل بالخداع واحنا يا أقباط ناس مسالمين وطيبين وصدقناه وقفنا معاه في 30 يونيو.. شايف إيد الأقباط اللي اتمدتله واللي تسببت إنه يقعد على كرسي مصر إنسان بهذا المستوى»، مضيفا “نفسي ألاقي قرار واحد طلعه السيسي واحتُرم.. يطلع يقول الكنائس اللى اتحرقت هبنيها.. والنتيجة الكنائس اللي اتحرقت أكتر والبيوت اللي ولعت أكتر.. هو بيقول الكلمة من هنا واحنا نقول خير يا رب اجعله خير.. كلامه كله فى الأرض».

وتابع: «سيادة الرئيس أرجوك إشرب بريل.. نفسي ألاقيلك كلمة مسموعة.. نفسي ألاقيك زي أي رئيس.. هتودينا فين يا ريس.. انت فاكر انك لما تيجي تزور الكنيسة دا معناه إن مشاكل الأقباط اتحلت؟»، وطالب عزيز الأقباط بأن يزيلوا صور الرئيس من بيوتهم، قائلًا: «يا ريت الناس اللي حاطة فى بيوتها صور السيسي وهو فى الكنيسة يشيلوها.. أنا مش مقتنع إن انت الرئيس بتاعي.. الرئيس بتاعي يحافظ عليا يحميني ويحفظني».

وقال :«الرئيس السادات عادى الأقباط وكانت نهايته كما تعرفون، وقولت لمبارك نهايتك سودة وقد كان.. عايز أقول للسيسي.. ربنا وحده اللي عالم بنهايتك.. نهايتك يا سيسي لن تختلف عن أي حد وقف ضد الكنيسة».

نظام السيسي تعامل مع حالة الغضب القبطي باستخفاف، فاكتفت أجهزته بتعميم إذاعة لقطات من زيارته للكاتدرائية في صورة “إعلان تجاري” على الفضائيات والتليفزيون المصري، وإرسال وفد من برلمان “عبالعال” ليلتقي بالبابا في الكنيسة، وكأن تلك الخطوات ستعيد جبر ما أنكسر.
عندما تلعب بنار الطائفية تصيبك لعنتها، وعندما تهدر دولة القانون، وتستبدلها بالجلسات العرفية التي تشرف عليها الأجهزة، وتتراخى في استعادة حقوق جزء من شعبك، تحل عليك اللعنة التي أخذت أسلافك إلى مصيرهم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف