البديل
أحمد بان
عن أحوالنا التي لاتسر حبيبًا
المتأمل فى أحوالنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية يدهشه حالة الموات التي لفت الجميع، وصنع جدرانها الإحباط واليأس والخوف من المعارضة الجادة والرعب من المجهول الذي ينتظرنا.

ظل الخطاب الرسمي للدولة ولمن يحب أن ينام فى ظلالها الورافة يردد دون ملل أو كلل، أننا يجب أن نحمد الله على إفلاتنا من مصير سوريا والعراق، ونعمة الاستقرار، وإن كان في قاع الأمم كلها دون التفات لتفاصيل ما نعانيه من تخلف فى جميع المناحي.

وجوم بادٍ على وجه كل مواطن يفكر في هذا البلد، الذي انقسم فعليا بين ثلاث فئات: الأولى يقودها النظام السياسي الذي قدم نفسه باعتباره حائط الصد الباقي ضد تقسيم الوطن وتفتيته، وإنقاذه من جماعة مغامرة ظنت أن بإمكانها إعادة بناء مصر على طريقتها كقطعة من خلافة إسلامية سكنت خيال الإسلاميين طويلا، دون استناد إلى تاريخ إيجابي أو نظرية محكمة في الدين أو الدنيا، هذا النظام يلتف حوله قطاع لايستهان به من البشر المنهكين فى كل أحوالهم، لكنهم فى تقديري يائسون من البدائل، يحاججون أنها كلها “جربنا بتوع ربنا طلعوا خايبين، وجربنا بتوع الثورة طلعوا مبعثرين لا يتفقون على رأي، فلم يصبح لدينا بديل سوى عمود الخيمة الجيش” الذي تقدم رغبا أو رهبا لحكم البلاد على طريقته التي يبدو أن قطاعات من مؤيديه غير مؤيدة لها، بل وناقدة لكل سياقاتها.

فى الحقيقة، لأول مرة يخرج قطاع من أنصار النظام ينتقدون أداءه السياسي والاقتصادي داخليا وخارجيا، لأول مرة يخرج خبراء من داخل معسكر الحكم يصرخون من طريقة النظام فى معالجة ملفات حساسة مثل ما يحدث في التعاطي مع إثيوبيا في قضية سد النهضة، معتبرين أنه جريمة تستدعي المحاسبة، خصوصا في ظل غياب برلمان حقيقي معبر عن الناس، فالبرلمان المسخ أصبح واقعا، وتساؤلات: كيف وصلنا له وما تركيبته وأجندة عمله وإلى أي مدى يحترم نصوص الدستور؟ خرجت من داخل الفئة المؤيدة في أكثر من ملف، أبرزها اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية.

طالع معي منطوق الحكم الذى أصدره مجلس الدولة بإبطال الاتفاقية والتأكيد على مصرية تيران وصنافير، يقول في فقرة تسجل بأحرف من نور لتؤكد أن مجلس الدولة يضم رجالا يدركون معنى الحفاظ على الدولة، تأمل هذا النص في تفسير مصطلح أعمال السيادة الذي تختبئ خلفه الحكومة: «عن الدفع المبدى من جهة الإدارة بعدم اختصاص المحكمة – والقضاء عموماً- ولائياً بنظر الدعويين استناداً إلى أن إبرام الاتفاقية محل الدعويين يعد عملا من أعمال السيادة، وإلى أن الطلبات فى الدعويين تتعلق بأعمال برلمانية لأن مجلس النواب يختص بالموافقة على المعاهدات، فإن هذا الدفع مردود في أساسه المستند إلى نظرية أعمال السيادة, بأنه طبقاً لما قضت به المحكمة الإدارية العليا، فإن أعمال السيادة ليست نظرية جامدة، وإنما تتسم بالمرونة وتتناسب عكسياً مع الحرية والديمقراطية، فيتسع نطاقها فى النظم الديكتاتورية، ويضيق كلما ارتقت الدولة فى مدراج الديمقراطية» (حكم المحكمة الإدارية العليا فى الطعن رقم 13846 لسنة 59 ق ع جلسة 21/4/2013).

وتابع: «يضاف إلي ذلك أن الدستور الحالي حظر في المادة 97 منه تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، ومن ثم فالأصل هو اختصاص القضاء بنظر جميع الطعون التي توجه ضد أي عمل أو قرار يصدر عن جهة الإدارة ولا يخرج عن رقابته إلا ما يصدق عليه من هذه الأعمال أو القرارات أنه من أعمال السيادة».. الكلمات لاتحتاج إلى شرح أعمال السيادة التي ليست نظرية جامدة، إنما تتسم بالمرونة وتتناسب عكسيا مع الحرية والديمقراطية، ولن نسأل بالطبع عن الحرية أو الديمقراطية! هذه عينة للمعارضة من داخل النظام ومن قلب الفئة التى يعتمد عليها بشكل أساسي.

فماذا عن الفئتين الثانية والثالثة، أما الثانية فهي جمهور وقواعد الإخوان واليمين الديني عموما، ممن يعتقدون أنهم أهل الخير في مواجهة أهل الشر، وهؤلاء حالة مرضية تستدعي العلاج النفسي وإن تضمن كلامهم حقا أو جرى على لسانهم منطق، أما الفئة الثالثة، التي أزعم أنها تعبر عني وعن جمهور ثورة يناير المنحاز لمصر، التي تليق بتاريخها وبنا وبشهدائها جميعا، فهم المغضوب عليهم في وعي الفئة الأولى، والضالين في عقل الفئة الثانية، وأزعم أن تلك الفئة هي التي نجت من استلاب الثانية ومن مازوخية الأولى، قبلتها الوطن الذي تدمي قلوبنا أحواله دون حول أو قوة.

فريضة الوقت التى يضيعها الجميع هي الاتفاق على ثوابت وطنية وإن اختلفت مشاربنا وراءنا، فلا يوجد وطن في الدنيا تمضى مسيرته فى غياب ثوابت وطنية تحدد ماهيته وهويته وانحيازاته التي تصنع كل ذلك وتبدو هي الأخرى مسخا في ظل هذا الانقسام المزري وربما هذا أيضا حديث آخر .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف