جريدة روزاليوسف
أيمن عبد المجيد
«تنجيد» الخطاب الدينى
لم يكن يتصور عاقل أن دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى تجديد الخطاب الدينى، ستحولها وزارة الأوقاف ممثلة فى وزيرها الدكتور محمد مختار جمعة إلى محاولة «تنجيد» الخطاب الدينى. تجديد الخطاب الديني، يستلزم بناء استراتيجية عمادها فلسفة إعمال العقل، ومواجهة الفكر المنحرف، بالفكر والفهم الصحيح للدين، هدم المنطلقات الفقهية الضالة، لمُفْتى التكفير الجاهلين بمقاصد وأحكام الشريعة، لبناء قواعد الاعتدال الراسخة فى عقول واعية ناقدة، تحتضن بزور الفقه والفهم الصحيح التى ترويها المعرفة والإطلاع حتى تنمو فتتشابك غصونها، صانعة سياجًا يحصن عقول الشباب ضد عمليات الاستقطاب الإرهابية. أعتقد أن الدكتور مختار يدرك صعوبة وضع استراتيجية للتجديد على الأقل لتطوير قدرات وآداء أئمة وزارة الأوقاف الذين يعتلون المنابر، فبحث عن إجراء سريع سهل المنال لصناعة إنجاز وهمى فتفتق ذهنه عن فكرة «التنجيد». والمنجد فى القاموس الشعبى هو ذلك الرجل الذى يحترف مهنة حياكة المراتب والمفروشات والوسادات، لكنه فى الغالب يقوم بعملية تدوير للأشياء القديمة بذات المكونات، باستثناء الحلة الخارجية فالباطن قديم والظاهر جديد لمجرد تزيينها. التجديد يحتاج مجددين، والتنجيد يحتاج منجدين، فهل ثمة تجديد للخطاب الدينى دون مجددين، قطعاً مستحيل، وهنا يجب أن نبحث عن عقول نابهة وعلماء تنويريين لديهم يقين بأهمية تجديد الخطاب الديني، ويملكون أدوات التجديد، وحتى نعثر على المجددين الحقيقيين، كان على السيد وزير الأوقاف أن يبتكر وسائل وآليات جديدة لتأهيل الدعاة معتلى المنابر بتراخيص من وزارته، عبر أسلوب ممنهج يلزم الدعاة بتطوير مهاراتهم ومعارفهم فالجاهل بحقيقة تعاليم دينه لا يقل خطورة عن التطرف. تفكيك المصطلحات والوقوف على معانيها يسهل بلوغ الغايات، فـ«التجديد» إتيان بما ليس مألوفًا أو شائعًا كابتكار موضوعاتِ أو أساليبَ معالجة مبتكرة للقضايا تخرج عن النَّمط المعروف لدى المتلقى. بينما الخطاب هو أسلوب المرسل لإيصال رسالته بمضامينها المحددة للمتلقي، والمضامين تخضع لمدى فهم المرسل «الخطيب» لأبعاد القضية فقهية كانت أو غيرها، ومن ثم الخطاب الدينى يمكن أن يكون ظلاميًا تكفيريًا، ويمكن أن يكون متسامحًا إصلاحيًا تنويريًا ينقل مضامين منطلقة من الفهم الصحيح للدين. وهنا نحتاج دعاة قادرين على «فصل الخطاب» وهو الكلام الذى يحمل حكما بينا، لتوضيح الحق فيما اخُتلف عليه من قضايا، قال تعالى فى سورة ص آية 20: «وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ» صدق الله العظيم. ولبناء جيل من الدعاة الواعين القادرين على فصل الخطاب، على وزير الأوقاف اتباع أساليب ممنهجة، تضمن الارتقاء المستمر بقدرات الدعاة العلمية، والتنمية الفقهية، عبر ربط الأجر بالترقى المالى والإداري، باجتياز دورات تدريبية وانجاز ابحاث علمية، حول قضايا تحدد الوزارة أطرها العامة بداية بمفهوم الجهاد ومروراً بالخطوط الفاصلة بين الجهاد للدفاع عن الدين والوطن والإرهاب، إلى غيرها من القضايا المعاصرة. لكن وزير الأوقاف خرج علينا بقرار ملزم للأئمة بإلقاء خطبة الجمعة من ورقة مكتوبة يفرض على الإمام كل حرف وكلمة بها، فإن ذلك هو التنجيد بعينه وليس التجديد، فما الداعى إذا لصعود إمام على المنبر ويمكن لمؤذن أو فراش بالمسجد يجيد القراءة والكتابة أن يصعد لإلقاء النص المكتوب؟!. إلقاء خطبة الجمعة عملية اتصال مباشر كاملة بين مرسل «الإمام» ورسالة «الخطبة بمضامينها» ومستقبل «جمهور المصلين»، بغية اقناعهم بمضامين تستهدف التأثير الإيجابى على سلوكهم، والقراءة من نص مكتوب تقتل الاجتهاد والإبداع ومهارات الإلقاء، وتضعف قدرت الخطيب فى التأثير على المصلين، بل ستخلق جيلاً جديدًا من «المنجدين» الدينيين، العاجزين عن ضحد الحجة بالحجة وسيصب ذلك فى صالح المتطرفين بما يتيح لهم من مساحات بالعقل الجمعى يمكن احتلالها بالفكر الضال والاستقطاب عبر وسائل الاتصال الحديثة التى يتعرض لها الشباب. أتفهم مبررات وزير الأوقاف حيث يسعى للسيطرة على ما يصدر عن بعض الخطباء من تجاوزات بتوظيفهم المنابر سياسيا لصالح تنظيمات إرهابية، عن عمد أو سوء فهم، لكن علاج ذلك بدأ بفرض الخطبة الموحدة التى يجب أن تشمل عنوانًا وعمودًا فقريًا ممثلاً فى موضوع الخطبة وأهدافها فقط، ويترك للإمام الاجتهاد فى الاستدلال من القرآن والسنة والإبداع فى عرض الموضوع وفقاً لطبيعة المتلقى التى تتنوع بين مستويات ثقافية مختلفة وبيئات ريفية وحضرية وبدوية، ومن ثم بلوغ أفضل مستويات التأثير على المتلقى لبلوغ الغاية. والخطوة الثانية لا يجب إطلاقاً أن تكون بفرض نص حرفى، بل متابعة الأئمة ورصد المخالفات، على أن تكون الخطوة الثالثة استدعاء المخالفين للجان علمية من علماء الأزهر الشريف والأوقاف لمناقشتهم علمياً فيما خرجوا به عن الفهم الصحيح، ليصوب فكر المخطئ عن جهل، ويجازى متعمدًا أقحم المسجد فى السياسة أو الفتن المذهبية والطائفية. ثم تأتى المرحلة الرابعة والتى يجب دائماً أن تسير مع كل المراحل، بالوقوف على الأخطاء وبواطن القصور الأكثر شيوعاً، وعلاجها عبر دورات تدريبية مكثفة، هذا لمن يعتلون المنابر فعلياً، بينما الأجيال الجديدة من دارسى العلوم الدينية فى الأزهر الشريف، فالحديث عن تنشئتهم مجددين لا منجدين حديثاً آخر أن شاء الله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف