المصريون
جمال سلطان
مصر بحاجة إلى "برنامج" عملي للإنقاذ الوطني
قد لا نختلف كثيرا في توصيف الواقع السياسي لوطننا الآن ، حتى وإن اختلفنا في تحديد الأسباب التي أدت به إلى ما أصبح عليه ، وتحديد المسئولين عن هذا كله ، وبطبيعة الحال كل طرف يلقي بالمسئولية على الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى ، ولكن الأهم في تقديري ، وهو ما كتبت من أجله مقالة أمس "ما الذي يقلق المؤسسة العسكرية" هو البحث عن مخرج ، وعدم ترك الوطن يتدحرج من هوة إلى مصيبة ومن حفرة إلى أخرى والاكتفاء بالفرجة والتشفي ، وأن يكون هذا المخرج عمليا وليس دعائيا أو جعجعات تتفشى في سوق المزايدات السياسية التي تورث الإحباط أكثر مما تعين على العمل ، مصر بحاجة إلى "برنامج" سياسي عملي وعاقل وحكيم يمكن البناء عليه وفق مراحل زمنية محددة . كثيرون كتبوا لي معلقين بأن سبب المشكلات كلها منذ انقلاب 1952 هو سيطرة الجيش على السياسة وشئون الوطن ، وأنه من يومها وهذا الخلل قائم ويتحمل مسئولية اضطراب مسار مصر وتأخرها بين العالمين في حين سبقتها دول أخرى بمراحل ، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا ، كانت مصر بالنسبة لها في ذلك الوقت مثلا وأملا وقدوة ، وهذا ـ تاريخيا ـ صحيح قطعا لأن الخلل وقع عندما نجح مجموعة صغيرة من الضباط الشباب الصغار ، في سن الثلاثين أو ما حولها في الاستيلاء على قيادة الجيش وعزل قياداته الكبيرة ثم الاستيلاء على الدولة بكاملها ومنح أنفسهم رتبا كبيرة ونفوذا سياسيا أكبر ، ووجد هؤلاء الشبان الصغار دولة بحجم مصر وأحزابها ومؤسساتها ومقدراتها وملكها طوع كلمة تخرج من فم أحدهم ، وعندما حاول قائدهم الرمزي "محمد نجيب" إقناعهم بالعودة إلى ثكناتهم وعودة الديمقراطية اعتقلوه وأهانوه ودمروا حياته هو وأسرته في سجن وإقامة جبرية ، لكن هؤلاء الضباط الشبان لم يكونوا قادرين على اختطاف الدولة بتلك السهولة من دون ظهير شعبي قوي ، وهذا ما حققه لهم الإخوان المسلمون بقدراتهم على الحشد ، وظنا منهم بأن تصفية بقية القوى والأحزاب سيجعل "الثمرة" تسقط في حجرهم ، خاصة وأن عبد الناصر في عنقه بيعة للمرشد ، والضباط الصغار ظلوا متحالفين مع الجماعة طوال سنتين يستخدمون زخمها في ترسيخ شرعيتهم وإحكام سيطرتهم على مفاصل الدولة والسلطة وتدمير كل الأحزاب الأخرى وقواعدها ، فلما تم لهم ذلك ذبحوهم ، قبل أن يقوم الضباط المغامرون بتصفية بعضهم بعضها سياسيا أو جسديا بعد ذلك على مراحل . وطوال مرحلة عبد الناصر والسادات ثم مبارك ، لم تعدم السلطة وجود ظهير "مدني" ، وفره في الستينات تنظيمات اليسار مقابل الحصول على كعكعة صغيرة من السلطة حيث منحهم الضباط بعض المؤسسات الصحفية الحكومية الكبيرة وقطاعات الثقافة وغيرها ، قبل أن يعصف بهم السادات ليبحث عن ظهير شعبي "مدني" بديل وفرته له الجماعات الإسلامية بما فيها الإخوان ، ثم انتقل "الظهير المدني" أيام مبارك لعديد من النخب السياسية والثقافية والأكاديمية قبل أن تطيح به وبهم ثورة الخامس والعشرين من يناير ، وكانت شراكة بين القوى المدنية والشبابية خاصة وبين الجيش بدون اتفاق مسبق ، وقد نجحت القوى المدنية في انتزاع مساحة كبيرة من "تمدين" الدولة والحياة السياسية خلال عامين ، كانا كالحلم أو طيف الخيال في حياة المصريين ، ووصل أول رئيس مدني لرئاسة الجمهورية عبر الانتخاب المباشر ، ثم تمزقت النخبة المدنية ـ بما فيها السلطة الجديدة ـ ومزقت معها قواعدها الشبابية التي فجرت الثورة ، وراهن الجميع ، الجميع بلا استثناء ، على أن تكون "المؤسسة" في صفه ، وكل كان يمني نفسه بذلك ، حتى انتهينا إلى بيان 3 يوليو بخارطة طريق جديدة محت كل ما سبق ، وأعلن بيان الخارطة الجديدة على الناس وقرأه القائد العام للقوات المسلحة ، رغم وجود رموز مدنية في الاجتماع ، وهي رمزية كانت كافية لاستبانة معقد السلطة الجديدة . قناعتي أن المشروع الذي تولد في 23 يوليو 1952 واستمر حتى الآن ، لم يعد قابلا للاستمرار في مستقبل مصر بتركيبتها الجديدة ، وجيلها الجديد ، ووعيها الجديد ، ونسق كوني وإنساني جديد ، وأنه أصبح عبئا على مصر ومستقبلها ومقدراتها ، وأن مصر تبحث الآن عن طريق جديد تستحقه ، كدولة عظيمة ، وشعب كبير ومتخم بالكفاءات والقدرات في كل المجالات ، غير أن المهم الآن هو أن يبحث الجميع عن برنامج عمل للتغيير ، وأن نتجاوز مرحلة التراشق بالاتهامات والخيانات والمؤامرات ، فطوال الستين عاما الماضية يصح تماما أن يقال للجميع المثل الشعبي الشهير : لا تعايرني ولا أعايرك .. ، والاستغراق في الملاومة وتبادل الاتهامات والبحث عن "الأكثر خطأ" سيطيل بنا المقام في التيه وإهدار الطاقة وزيادة التمزق الوطني ، كما أن الإغراق في الحديث الجميل والطوباوي والشيق عن "عالم المثل" وما ينبغي أن يكون سيكون عبئا على قوى التغيير وطاقات التغيير ومرسخا للإحباط والإحساس بالعجز ، ما لم يكن مصحوبا ببرنامج عملي تدريجي للإصلاح أو التغيير ، البرنامج هو التحدي ، والخطوة الأولى في البرنامج عادة ما تكون هي الخطوة الأصعب ، والاستفادة من تجارب الأمم الأخرى في المنطقة والعالم مهم جدا لاختصار الطريق وعدم تكرار الأخطاء ، وتوفير تضحيات قد لا تكون ضرورية . في اعتقادي أن الظرف الحالي الذي تعيشه مصر يقرب الجميع من برنامج إصلاح شامل وجذري يصنع خريطة جادة وعادلة لمصر المستقبل ، فلا يوجد أحد ، لا في السلطة ولا في المعارضة ، أصبح يملك اليقين بالخطوة المقبلة ، فالأمور كلها ضبابية ، والتحديات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والسياسية جسيمة للغاية ، وأكبر من قدرة جهة أو مؤسسة أو كتلة مدنية أو سلطة أو معارضة على تحملها بمفردها ، وهناك إدراك متزايد بثقل المستقبل على الجميع ، فإذا نجحنا ـ الآن ـ في بناء جسور من الثقة ، واستعادة العزم على شراكة التغيير والإصلاح ، والتوافق على برنامج سياسي بجدول زمني مناسب وأفكار واقعية ، ونحينا العنتريات والطوباويات جانبا ، فسيكون الأمل أقرب إلينا من أي وقت مضى .

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف