الوطن
أمانى هولة
رسالة إلى ابنى (على هامش الثانوية العامة).. حكايات وطن «78»
يا ابن عمرى.. وأيامى التى رحلت سريعاً ولا يزال الطفل الصغير يركض خلفى يطالبنى بحضن وأمان لم أحقق له منه الكثير..

يا فكرة راودتنى معطرة بندى فجر الأيام الخوالى.. هنالك فى تى الصغيرة.. أمارس عليها كل مهارات الأمومة.. أعانقها.. أطعمها أمنياتى الساذجة.. أبوح لها بأسرارى المدهشة.. وبضع شقاوات ارتكبتها.. أناجيها.. أقبلها.. قبل أن أخلد لنوم خلى البال.. وكبرت الصغيرة وألقت بفيونكاتها ولعبتها بأحد أدراج الذاكرة..

وظل حلم الأمومة هنالك فى القلب بين الحنايا متأهباً للحظة ميلاد.. كنت أنتظرك دائماً يا من شعرت بحبه قبل أن أرى ملامحه الرقيقة وتلمست خفقات قلبه قبل أن ألمس أنامله الصغيرة لتغرد البلابل فى ربيع أيامى، وأنا أرى أول ابتسامة من الثغر المنمنم.. أول خطوة.. أول حرف.. تعلمت معه ومنه لغة لا يعرفها سوانا.. نتناجى بها بلا ملل..

أرسل إليك الآن بعد كل تلك السنين رسالة أرجوك فيها أن تسامحنى يا صغيرى.. لفشل أحلامى الكبيرة.. وخططى العظيمة.. وأكبر مشاريعى فى الحياة.. بعد أن شمرت ساعدى بحماس.. لإنشاء صرح كبير.. هو النواة الحقيقية لنهوض الأمة.. وتقدم الحضارة.. وتحقيق أهداف الرسالات السماوية.. اسمه إنسان.. إنه أنت يا أغلى ما فى وجودى ولكن.. خذلتنى الأيام.. وأقرب الأشياء.. خذلنى الرفيق قبل الغريب.. خذلنى هواء ينفث سموماً لوثت الضمائر قبل الآلات الخربة.. خذلنى ماء يلقون فيه جيف الماشية الميتة ومخلفات المصانع القذرة.. فتجرى السموم فى عروق النجاشى الذى لم يعد (حليوة أسمر) خذلنى طعام ملون بكل الألوان إلا لون العافية.... لحوم أوردونا العلة والداء.. خضار وفاكهة تسقى من المجارى الطافحة فتنبت فى الأرض شهود قبور ضمائر العباد.. خذلنى قانون لا يعرف من العدل سوى لوحة معلقة على حائط مبنى كئيب تنبعث منه رائحة الظلم قبل المراحيض.. خذلنى شهود زور لا يخجلون من الواحد القهار أساءوا الأدب بعد أن أمنوا العقاب.

خذلنى شارع توحش وأصبح غولاً يلتهم العيال.. يلقننا كل يوم دروس الانحطاط والدونية.. يحطم كل القيم التى شقيت لأعلمها لك منذ نعومة أظفارك.. بدءاً من النظافة مأساتنا الأبدية.. وقد ظل عقلك الصغير فى حيرة من ماما العجيبة التى (توسخ) السيارة بالقمامة، بينما القمامة فى كل مكان فى الشارع؟...

خذلنى نظام تعليم متآمر حد الخيانة العظمى.. يحطم كل أحلام الصغار.. وكأنه آلة من آلات التعذيب التى تفنن فى ابتكارها الماركيز دو ساد فى رواياته المرعبة فى العصور الوسطى.. فأنت مكره على تعلم ما لا تحب.. مكره على حشر الكثير من التفاصيل العقيمة لتتقيأها فى ورقة إجابة مريبة.. ثم تنساها بعد أن أفقدتك القدرة على الاندهاش.. الرغبة فى الاكتشاف.. متعة البحث.. وحتى الخيال..

ثم مكره على مستقبل لا يحترم قدراتك.. ملكاتك.. مواهبك التى قد تعيش وتموت دون أن تكتشفها.. فهو لا يعترف إلا بأرقام صماء تخضع لنظرية الاحتمالات لإحداثيات عجيبة.. تميز من فى نفس إمكانياتك العلمية طبقاً لـ:

■ مدى دقة وإتقان تقنيات الغش المستحدثة..

■ كم الضمائر الهاوية على حافة مصلحة أو حتى تعاطف فى ظاهره الرحمة وباطنه قمة الظلم من مراقبى اللجان.

■ كم لجنة امتحان تلقت بفرح أصوات الميكروفونات تملى إجابات الأسئلة وسط ضحكات الطلبة.. وحماية الأهالى.. وذهول الجميع..

■ كم لجنة تصحيح أو مراجعة تم اختراقها من عدمه.

■ عدد ومدى قوة الواسطة والمزاج الشخصى ورغبات قرنائك من أبناء أصحاب الحظوة فى اختبارات القدرات لبعض الكليات..

ليحدد مصيرك محصلة كل تلك (العشوائية) فتجبر على الالتحاق بكلية لا تجد نفسك فيها، بينما يشغل مكانك آخر فى كلية أخرى يعيش نفس مأساتك...حتى وقد سرق فرصتك التى لن يجيد الاستفادة منها..

فسامحنى يا ابنى، فقد نسيت أن أعلمك فن الحياة فى هذا الزمان وكيف تتعامل مع أطقم المعايير التى تحتاج (كتالوج)، لأن الكيل ليس بمكيالين، ولكن بعشرات المكاييل..

سامحنى على وجودك فى بلد عزل ملكاً واحداً ليمتلكها ملوك كثيرون، فللحديد ملك وللأسمنت ملك.. وللخردة ملك.

سامحنى فقد ولدت بعد أن تم إلغاء الباشوية والبهاوية إلا من وزارة الداخلية..

باختصار سامحنى أننى أنجبتك فى زمن الأخطاء.. وحمّلتك فوق طاقتك من طموحات جريحة بوطن لا يرثه الدهماء.. وطن نموت من أجله دون أن ندرك أنه القاتل قبل الأعداء.. سامحنى أننى نسيت أن أعلمك كيف تقلع عن الأحلام.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف