الأهرام
عبد الرحمن سعد
ذَكَرَ الله.. ففاضت عيناه
بشَّرنا رسول الإسلام، عليه الصلاة والسلام، بأنه من ضمن السَبْعَةٌ الذين "يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تعالى فِي ظِلِّهِ, يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ": "رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا, فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ"، بحسب تعبير رسول الله، صلى الله عليه وسلم.(رواه البخاري، ومسلم).
والمقصود بالرجل: المرء سواء كان ذكرا أو أنثى، وذكره لله تعالى هنا قد يكون بالقلب، أو اللسان، أو الفعال، حال كونه بعيدا عن أعين الناس، ومراءتهم، أو ما سوى الله تعالى، أو شوقا إليه، لفرط محبته، وكمال إخلاصه.

ويدخل في الذكر أيضا قراءة القرآن باعتباره سيد الذكر، وكذلك تذكر الخطايا، والبكاء عليها، فهي ثمرة من ثمرات الذكر، ولن يتأتي الندم عليها، والإنابة إلى الله منها، إلا بتذكرها، حال هذه الخلوة بالله.

قال القرطبي: "فيض العين بحسب حال الذاكر، وبحسب ما يُكشف له، ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاء من خشية الله. وفي حال أوصاف الجمال يكون البكاء من الشوق إلى الله".

"فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ".. أي: فاضت الدموع من عينيه، وأُسند الفيض إلى العين للمبالغة، كأنها هي التي فاضت.

والباكي من خشية الله ،لا تمس عينه النار، حسبما جاء في الحديث: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ".(رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وعن بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" ثَلَاثَةٌ لَا تَرَى أَعْيُنُهُمُ النَّارَ: عَيْنٌ حَرَسَتْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ". (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).

وعن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - قال: قالَ رسُولُ اللَّهِ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "لا يَلِجُ النَّارَ رَجْلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّه حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْع، وَلا يَجْتَمعُ غُبَارٌ في سَبِيلِ اللَّه ودُخانُ جَهَنَّمَ". (رواه الترمذي والنسائي).

قوله: "حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْع"، أي أنه محال، كقوله تعالى: "حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ". (الأعراف:40).

والبكاء من خشية الله: حبل النجاة من متاعب الحياة، فإنه يطهر النفس، ويزكي القلب، ويجدد النشاط، ويصل المرء بالله، والدنيا بالآخرة.

عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: "قلت يارسول الله: ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك". (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وكعادة الرسول، صلى الله عليه وسلم: يضع النظرية، ويكون أول الملتزمين بها، فبكى، في الصلاة، وكان لصدره صوت كالمرجل من البكاء.

عن مطرف عن أبيه قال: "رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يصلي، ولصدره أزيز (صوت)، كأزيز الرَّحا من البكاء". (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

وبكى، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، عند سماع قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه ـ للقرآن، فقال له، بنهاية الآية 41 من سورة "النساء": "حَسْبُكَ الآن".. "فَالْتَفَتَّ إِليْهِ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ"، بحسب ابن مسعود. (رواه البخاري، ومسلم).

أما عن حال السلف، رضي الله عنهم، مع البكاء من خشية الله، فحدَّث، ولا حرج.

عن العِرباض بن سارية - رضي الله عنه ـ وهو أحد البكّائين ـ قال: "وَعَظَنا رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَوْعِظَةً، وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْها العُيُونُ".(رواهُ أبو داوُدَ والتِّرمِذِيُّ، وقالَ: حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ).

وقال ابن عمر، رضي الله عنهما: "لأن أدمع دمعة من خشية الله، أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار".

وقال أبو الدرداء، رضي الله عنه: "أبكاني ثلاث: هول المطلع، وانقطاع العمل، وموقفي بين يدي الله ،لا أدري: أيُؤمر بي إلى الجنة، أم إلى النار".

وحين سئل عطاء السليمي: ما هذا الحزن؟ قال: "ويحك، الموت في عنقي، والقبر بيتي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يُصنَع بي".

وعن تميم الداري، رضى الله عنه، أنه قرأ هذه الآية: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ". (الجاثية:21)، فجعل يرددها، ويبكي، إلى الصباح.

ذالكم هو: "المستظل بظل عرش الله": "رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا, فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ".. فإن لم تبك أيها المسلم، لما سبق، فابك لواقعك، وتذكر الرحيل، وقلة المعين، أو ابك لواقع المسلمين، وما يبكي فيه كثير.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف