عبقرية عنوان رواية الطيب صالح الرائعة "موسم الهجرة إلى الشمال" يكمن فى أن هجرات الطيور والحيوانات التى لا تملك القدرة على مواصلة الحياة فى الصقيع تتم عادة فى بداية فصل الشتاء بالاتجاه جنوبًا حيث الدفء والطعام الوفير. أما الهجرات نحو الشمال البارد فلا يقوم بها سوى الإنسان عندما يفقد القدرة على مواصلة الحياة فى بلاده الجنوبية الدافئة، فيتخذ طريقه مرغمًا نحو بلدان بعينها طلبًا للرزق أو انطلاقًا نحو الحرية لكى يتخفف من القيود على عقله وجسده.
من حق المهاجر بالطبع أن يحمل جزءًا من عاداته وتقاليده فى حقائبه، ولا توجد مشكلة كبيرة فى ذلك طالما اعتبرها مقتنياته الخاصة التى تزين مساحته الشخصية فى حياته الجديدة. المشكلة هى إصرار المهاجر فى كثير من الأحيان على الخروج بتلك التقاليد والعادات إلى المجال العام، حتى ولو كانت تتعارض مع الأطر القانونية والأعراف التى تنظم الحياة فى مجتمعه الجديد. المشكلة الأخطر بالطبع هى اعتبار المهاجر أن جهاده الأكبر هو نشر ثقافته الأصلية فى مجتمعات لا يمكن لتطورها الناتج من أنساقها المعرفية غير البدوية أن يجعلها تسلك طريقًا صحراويًّا مغايرًا لثقافتها، التى لولا وجودها فى بلادهم لما هاجر المضطهدون إليها. ومن بينهم بالطبع صاحب العقلية الجهادية التى لا ترى فى بلدان المهجر التى احتضنته، بعدما لفظته بلاده، سوى فسطاط للكفر!
المواطن الغربى البسيط يعطى أذنه الآن لدونالد ترامب فى أمريكا ويلتفت بجدية إلى صرخات لوبان العنصرية، ويستريح إلى انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبى التى لم تحدث إلا لطرد مواطنى أوروبا الشرقية وإعادتهم إلى بلادهم، لتوفير فرص عمل أكثر لمواطنين بريطانيين. فما بالك إذن بالمواطن الشرقى والعربى المسلم على وجه الخصوص الذى لا يزاحم مواطنى بريطانيا فى فرص عملهم فقط، بل ويريد أن يفرض عليهم ثقافته؟
كيف يحدث هذا؟ يبدأ الأمر بانعزال المهاجر عن مجتمعه المضيف فى جيتوهات مغلقة تتحول يومًا بعد آخر إلى نماذج مصغرة لوطنه وتنقلب إلى مفارخ للعنف والإرهاب فى نهاية المطاف.
فوز اليمين المتطرف فى أمريكا وأوروبا بثقة الناخبين صار أمرًا متوقعًا بعد أن تحول الإرهاب لديهم إلى واقع يومى. الإجراءات التى ستنجم عن ذلك الفوز ستكون كارثية بالنسبة إلى المهاجرين المعتدلين الذين يمارسون حياتهم خارج جيتوهات التطرف، والذين كبر أطفالهم فى تلك البلدان واكتسبوا ثقافتها كمواطنين يرتبطون بها أكثر مما يرتبط آباؤهم بأوطانهم الأم.
فكرة أن الغرب يحصد ما زرعته يداه من فتن ومؤامرات فى بلادنا استهدف بها استلاب ثرواتنا، مردود عليها بأنها تحمل الكثير من رفع المسؤولية عن الذات رغم ما بها من حقائق تاريخية لا تلغى دورنا فى تغييب العدالة الاجتماعية والديمقراطية والحريات عن بلادنا. الأمر الذى أدى إلى تحويلها، بأيدينا قبل أن يكون بأيدى غيرنا، إلى مراتع لأفكار ظلامية وأوهام ضلالية يزرعها فى نفوس البسطاء المقهورين أناس لا يمتلكون الحد الأدنى من المواهب، ومن ثقافة العصر التى تؤهلهم لقيادة قومهم ومساعدتهم على اللحاق بركب الحضارة الإنسانية.
مثلما كان هناك موسم للهجرة إلى الشمال هناك موسم للعودة إلى الجنوب. ماذا سيحدث بعدها؟ للأسف كل السيناريوهات مفتوحة وتشير إلى عنف أكثر وفرص أقل فى الخروج من الدائرة الجهنمية اللعينة.
اللهم خيب ظنونى!