التحرير
شعبان يوسف
فؤاد قاعود.. صحفى بدرجة شاعر كبير
منذ أواسط الخمسينيات، انبثقت طاقة شعرية جبّارة، أطلقت الشعراء صلاح عبد الصبور وكمال نشأت وأحمد عبد المعطى حجازى، ومحمد مهران السيد، وفؤاد حداد وصلاح جاهين ومحسن الخياط وغيرهم، ولم تكن هذه الانبثاقة الفوّارة فى كمّ المنتج فقط، بل كانت تتميز بالجدّة والطزاجة والحيوية، استكمالا لدور لعبه الشعراء المصريون على مدى نصف قرن من الزمان، أى منذ رحيل محمود سامى البارودى عام 1904.

كانت مصر أواسط الخمسينيات، تخلع ثوبا باليا قديما، كان ينمّ عن الضعف، لترتدى أثوابا أخرى زاهية فتية، واشتدت ألوان هذا الثوب ووضوحه بعد عدوان 1956 الغاشم على بلاد الوادى، فاجتمعت الهمة، وارتفعت عزيمة المقاومة فى سماء مصر، ليكتب الشعراء، وليصدح المطربون، وكتب صلاح جاهين «موال عشان القنال»، وكتب فؤاد حداد «حنبنى السد».

وكان حداد وجاهين، استكمالا وتطويرا وامتدادا طبيعيا للعظيمين بيرم التونسى «المصرى»، وبديع خيرى، وكانت أزجال هذين تنطلق من مواقف رافضة ومقاومة وحاشدة من المعانى والمفردات ما يكفى جيلا كاملا، وكانت هذه الأزجال تملأ الدنيا بهجة وحماسا، وكانت أزجالا تنتمى إلى عصر الليبرالية فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى، ولم تكن أزجالا تلبى أغراضا معينة سوى أنها تأتى من هذه الروح الفنية الوثابة.

وعندما جاءت إبداعات جاهين وحداد، كانت تحاول أن تتسق مع الرؤية القومية التى باتت هى الفيصل المهيمن على الإبداع والكتابة فى ذلك الوقت، هذه الرؤية التى تخدم فكرة حماسية معينة، ولكنها فى إبداع جديد، وكان انفلات أشعار حداد وجاهين من الإطار الزجلى، مقدمة لثورة كاملة فى هذا الشعر الشعبى، القريب من قلوب الناس وأذواقهم.

بعد هذين الشاعرين اللذين فتحا الباب على مصراعيه، وقد استطاعا تحرير هذا الفن من بعض الرتابة والخمول، انطلقت كتيبة صغيرة من الشعراء الشباب، كان لصلاح جاهين «مجد» أن قدمهم فى مجلة «صباح الخير»، وعلى رأس هؤلاء الشاعر الصعيدى الكبير الفاتن عبد الرحمن الأبنودى، والشاعر سيد حجاب ابن محافظة الدقهلية، ثم فؤاد قاعود الشاعر والزجال السكندرى.

وهذا الأخير كان قادما من عالم الزجل، وكان قد تمرّس فى عدة أشغال، وكان يعمل فى حضرة الشاعر الكبير الترزى عبد العليم القبانى، هذا الشاعر الذى ظلمته «الميديا» حيا وميتا، وتعلم فى حضرته فؤاد قاعود الفن وجلاله، ثم استقر بعد ذلك فى وظيفة «عامل سويتش»، لفترة قصيرة، حتى التقى بصلاح جاهين، واقترح عليه أن يأتى إلى القاهرة، وبالفعل جاء الشاعر أحمد فؤاد قاعود، وقدمه جاهين إلى إحسان عبد القدوس، وتم تعيينه فى المجلة «شاعرا»، وأعتقد أنه الشاعر الوحيد الذى جاء تعيينه هكذا، إذ إنه لا يملك مؤهلات، حتى يصبح صحفيا، ولم يمارس العمل الصحفى، ولكن الكبيرين إحسان وجاهين، اقتنعا وافتتنا بموهبته الفنية والشعرية، فقرر إحسان صاحب الشأن تعيينه شاعرا، وقدمه صلاح جاهين فى مجلة «صباح الخير» بكلمات مفعمة بالحماس والتشجيع، هذا الحماس الذى ظل يلازم فؤاد قاعود طوال حياته، بل إن هذا الحماس أدخله السجن، عندما كان يشارك الطلّاب فى المظاهرات وكل الأعمال الاحتجاجية، وكتب بضع قصائد للشيخ إمام، ومن أشهر هذه الأغنيات أغنية «العزيق»، التى كان يحفظها الشباب ويرددونها فى كل المناسبات، ثم أغنية «مرمر زمانى يا زمانى مرمر».

كان طعم أشعار فؤاد قاعود مختلفا نسبيا عن أشعار رفيقيه حجاب والأبنودى، إذ كان متأثرا فى البداية، وحتى رحيله بالحسّ الزجلى الذى جاء منه، فبعد أن قدمه صلاح جاهين فى المجلة، راح ينشر قصائده وزجلياته القصيرة، حتى بدأت إبداعاته تصبح علامة مميزة للمجلة، وفى يناير عام 1963 قدّم تجربة فنية وغنية مع الرسام العظيم حجازى، وجاء فى تقديم هذه التجربة كلمة قصيرة تقول: «سيرا على الأقدام.. سافر الشاعر والرسام.. ليعيشا هذه الرحلة الغريبة.. وعادا ليقدما إلى قراء صباح الخير هذه الصفحات!!»، وكان عنوان المنتج الإبداعى المشترك «بلاد الله لخلق الله»، وظلّ حجازى يرسم غالبية نصوص فؤاد قاعود التى استمرت لأكثر من أربعين عاما فى المجلة، ويتضح أثر الزجل كما ذكرنا فى كل إبداعات قاعود، ففى هذه التجربة المشتركة يقول قاعود:

(شاعر ورسام.. عاجز ومسكين

سافروا على الأقدام.. والجميع راكبين

أكلهم بتاو... شربهم تخميس

ضحكهم هئاو.. لفظهم تألس

فى خمس أيام.. ضيعوا القرشين

شاعر ورسام.. عاجز ومسكين).

كانت جحافل الفقراء والمضطهدين والمظلومين، وطبقات الموظفين، والفلاحين والبنات والصبيان، تغزو شوارع وأزقة فؤاد قاعود، إنه شاعر بطعم المقاومة، شاعر بحجم المأساة التى تعيشها بلادنا، شاعر على مستوى الدراما الإنسانية التى تتمدد فى العالم كله، هذا الشاعر ظل مخلصا لناسه، ولراسه، لا لرأس آخرين، وكان العند المقاتل يدفعه لكى يزود عن طبقات الكادحين بكل حرية، رغم أنه كان ينتمى إلى مجلة رسمية، وله تجربة إبداعية فريدة مع رفيقه الراحل عبد السلام رضوان للفتيان، نشرت مسلسلة فى المجلة، ولا أظنها جُمعت فى كتاب.

هذا الشاعر الذى كان متأثرا بروح الزجل، استمر فى إخلاصه، وراح يقدّم تجارب لآخرين، وعلى رأس هؤلاء الشاعر الكبير جمال بخيت.

وظل قاعود ينشر أشعاره على مدى ثلاثة عقود من الزمان، ولم يصدر حتى تلك الفترة سوى ديوان واحد، هو ديوان «الاعتراض» عن مكتبة مدبولى عام 1976، ثم ديوان «المواويل» فى يونيو عام 1978، وقدّم له دراسة نقدية ممتازة الناقد الراحل فاروق عبد القادر، ثم توالت بعض دواوينها الأخرى، وفى لفتة طيبة نشرت الهيئة العامة لقصور الثقافة معظم أشعاره فى مجلدات أربعة، وكنت أتمنى أن تصاحب هذه المجلدات رسومات حجازى العظيم.

وأختم هذه الكلمات بإحدى مقطوعاته الجميلة التى كتبها فى العدد الصادر من مجلة «صباح الخير» بتاريخ 8 أبريل 1971، يقول فيها:

(حدفونى فى وسط البلد

شفت الميدان غابة من المخاليق

مسحور وكل ما وسعوه بيضيق

ولقيتنى ساير ف اتجاه الزحام

مافيش سلام ووئام

اللى بينهش كتف أخوه

واللى محلق بالدراع ع الطريق).
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف