على هاشم
الرئيس فضل الإصلاح ومصلحة الوطن علي شعبيته
ماذا لو آثر الرئيس السيسي السلامة. وابتعد عن المغامرة بشعبيته ورصيده عند مؤيديه. وامتنع عن إصدار قرارات اقتصادية إصلاحية. تبدو مؤلمة في ظاهرها » لكنها ضرورية ولازمة لعبور الأزمة الاقتصادية التي خلفتها سنوات ما بعد ثورة يناير.. كان يمكن للرئيس أن يؤجل ـ كما فعل سابقوه ـ هذه القرارات الصعبة إلي حين.. لكنه كعادته أقتحم مشكلات معقدة طالما تهربت منها حكومات ونظم متعاقبة علي مدي 50 عامًا أو يزيد.
الجميع يعلمون صعوبة ما تعانيه مصر اليوم من توقف عوائد السياحة التي ما إن تظهر في الأفق بوادر تحسن في مؤشراتها. حتي تمتد إليها يد الإرهاب الغاشم فتعيدها خطوات للوراء بفضل ما أقدمت عليه دول عديدة لا ترجو لمصر خيرًا فحذرت رعاياها من السفر إليها مثلما فعلت بريطانيا وروسيا التي ما إن سقطت طائرتها فوق سيناء حتي أوقفت رحلاتها لشرم الشيخ فتهاوت عوائد السياحة لأدني معدلاتها.. ناهيك عن تراجع التصدير وتوقف الإنتاج في كثير من المصانع. وصعود غير معقول للدولار. وديون وفوائد تثقل ميزانية الدولة. وتراجع احتياطي النقد الأجنبي الذي لولا ما تتلقاه مصر من مساعدات عربية لكانت في عداد الدول غير المستقرة اقتصاديًا. وأيضًا انخفاض معدلات النمو.. فما بالنا بمعدلات التنمية المستدامة وارتفاع الديون المحلية "لنحو 97% من الناتج المحلي". ونحو 54 مليار دولار ديونًا خارجية بخلاف فوائدهما الباهظة التي تلتهم وحدها ما يقرب من ثلث الموازنة العامة.. فماذا بقي للتعليم والصحة والاستثمار بعد الأجور.. ورغم ذلك فهم يشككون ويزايدون بمناسبة ودون مناسبة؟!
وهنا يتبادر إلي الذهن سؤال: هل تملك النخبة والمجادلون والمشككون فيما تفعله الحكومة. وفيما أقدمت عليه من مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول علي قرض بقيمة 12 مليار دولار رغم ما يستصحبه من أعباء ومتاعب شأن كل القروض.. هل يملك هؤلاء المزايدون رؤي بديلة وحلولاً أكثر نجاعة لأزماتنا.. وهل الاعتراض علي قرض الصندوق يرجع للقرار في حد ذاته أم لتوقيته أم لحجم القرض وعواقبه وتبعاته.. وهل يفرض ¢الصندوق¢ شروطه القاسية علي مصر.. أم أنها اختارت اللجوء لمثل هذه القرارات الصعبة طواعية وليس التزامًا بروشتة صندوق النقد وإملاءاته..؟!
الحكومة لا تري اللجوء لصندوق النقد مجرد اقتراض أموال هي في حاجة إليها بل هو شهادة ثقة في الاقتصاد المصري بأنه يسير في الاتجاه السليم..ورغم أن ذلك صحيح إلي حد كبير لكن هل قدمت المعارضة والمزايدون علي إجراءات وسياسات الحكومة بدائل علمية تغنينا عن قروض صندوق النقد الدولي وغيره.. هل تقترح بدائل أخري لجعل اقتصادنا بيئة حاضنة وجاذبة للاستثمار وليست ـ كما هو الحال ـ طاردة تدفع هذا الاستثمار للهرب.خصوصًا الخارجي منه والذي يمكنه حل أزمة العملة الصعبة إذا ما قرر التوطن في أرض المحروسة. وضخ نقده الأجنبي. وتشغيل العمالة وتصدير المنتجات.ودفع الضرائب والـتأمينات وغيرهما.. أم شعر هؤلاء المشككون باقتراب سيف الإصلاح الاقتصادي من رقابهم فأرادوا إيقافه وتعطيله لينعموا بمغانم الفساد الذي يعيث في البلاد طولاً وعرضًا رغم ما تبذله الدولة من جهود مضنية للتصدي له ومكافحته واجتثاثه من جذوره من خلال الإصلاح الإداري بإصدار قانون الخدمة المدنية. مرورًا بنظام الشباك الواحد. وميكنة الإجراءات لضمان السرعة والشفافية في إصدار تراخيص المشروعات الجديدة. والإصلاح الضريبي والتيسيرات الجاذبة للاستثمار.
منظومة الدعم تأخر إصلاحها كثيرًا. ولم تجرؤ حكومات كثيرة علي الاقتراب منها منذ وقعت انتفاضة الخبز..وكانت النتيجة ما نراه اليوم من اختلالات هيكلية كبيرة. ندفع جميعًا ثمنها فادحًا.. ورغم أن ثمة تجارب دولية عديدة سبقتنا في هذا المضمار وعالجت هذه المنظومة بكفاءة وعدالة لم ترهق الفقراء. ولم تحاب الأغنياء وكانت بين ذلك قوامًا..لكنها اضطرت لذلك بضغوط شديدة من صندوق النقد الدولي خلافًا لحكومة مصر التي أخذت زمام المبادرة حتي من قبل أن يطرأ علي بالها موضوع الحصول علي قرض منه.. لقد قررت الإصلاح بيدها لا بيد الصندوق. واتخذت من أجل ذلك إجراءات سبقت التفاوض مع المؤسسة الدولية مثل تخفيف الدعم. والشروع في إعداد قانون الخدمة المدنية الذي رفضه البرلمان في البداية ثم عاد ووافق عليه بعدما أدخل عليه ما أراد من تعديلات.
لم يعبأ الرئيس بشعبيته بل انحاز لمصلحة الوطن علي حساب تلك الشعبية.ولم يكترث بما تدبره أطراف هنا وهناك لزرع الإحباط والتشكيك والنيل من رصيده لدي الشعب.وهو ما صادف للأسف قرارات مرتبكة أقدمت عليها الحكومة بلا قصد.ناهيك عما يفعله التجار الجشعون والمحتكرون والفاسدون للتربح ولو علي حساب المواطن وشعبية الرئيس الذي يدفع وحده فاتورة ما يفعله هؤلاء جميعًا.. وهنا يثور سؤال آخر: ماذا فعلت الأحزاب والمجتمع المدني ورجال الأعمال والأثرياء لإنقاذ الاقتصاد ودعم الدولة.. لماذا يصر البعض علي إشعال الشارع. والتجديف ضد مصلحة مصر بالمزايدة علي فقرائها تارة. وعلي إجراءات الحكومة تارة أخري.. وماذا قدم رجال الأعمال لعبور هذه الفترة الحرجة.. هل لانت قلوبهم فلم يغالوا في الأسعار.. وتوقفوا عن المضاربة في سعر الدولار حتي قفز لمستوي غير مسبوق يهدد بإفقار ملايين المصريين تحت أقدام التضخم والغلاء وانخفاض قيمة الجنيه.. من الكاسب ومن الخاسر مما يجري في مصر.. ألا يدرك هؤلاء أن مصر أعطتهم الكثير والكثير من أراض بثمن بخس إلي قروض وتسهيلات جمة حتي أثروا وراكموا الثروات الطائلة من لا شيء.. ألم يحن الوقت لرد الجميل لمصر؟!
والسؤال للحكومة: ماذا فعلت لاستخلاص حق المجتمع والوطن من هؤلاء المتربحين.. أين وصلت إجراءات استرداد الأراضي المنهوبة والمخالفات بالجملة وأرقامها بالمليارات.. وماذا اتخذت من إجراءات لإنجاح مثل هذه القرارات الصعبة.. ولإنقاذ نحو 27.8% من سكان مصر من براثن الفقر.. ولإعاشة نحو مليوني مولود جديد سنويًا.. لماذا تراجعت البسمة والنكتة والتفاؤل لدي كثير من المصريين.. وحل محلها العنف والحقد والاكتئاب.. هل هي ضغوط المشكلات الاقتصادية والسياسية والغلاء وانخفاض دخول الأفراد وشيوع الجرائم والفساد.. وتوحش رأس المال وسيطرة حفنة من أصحابه علي مشهد الإعلام والاقتصاد. رغبة منهم في حماية مصالحهم والتأثير علي المشهد السياسي..؟!
علي الحكومة أن تقف أمام هذه الظواهر بتأمل وعمق. مستعينة بأهل الذكر من ذوي الكفاءة والنزاهة إن أرادت عودة البسمة للوجوه والثقة للقلوب.. وألا تترك المواطن نهبًا لقانون العرض والطلب في غياب أي رقابة حقيقية علي الأسواق والمعاملات. ووجود اقتصاد أسود يعادل أو يزيد علي الاقتصاد الرسمي.
علي الحكومة أن تسارع لوأد العشوائية ووقف الاحتكار وانفراد المحتكرين بالمستهلكين من وراء ظهرها أو تحت بصرها بلا رحمة ولا هوادة حتي ضج الناس من الفساد الاقتصادي والفساد بشتي صوره.
لا يكفي أن تخرج علينا الحكومة بين الحين والآخر بتصريحات لفظية مطمئنة دون أن تصاحبها إجراءات عملية ملموسة وقرارات مدروسة علي الأرض لوقف هذا النزيف وذلك الاحتقان.. ولا يكفي وجود ¢ رقيب ¢ تقليدي بل مطلوب استحداث تشريعات. وتفعيلها لضبط السوق من المنبع بتدخل فوري مستديم ليشعر المواطن الغلبان أن الحكومة في ظهره تحميه من غوائل الجشع. وتوفر له الأمن من الخوف. والإطعام من الجوع.. والعدالة الاجتماعية. وتحمي الطبقة الوسطي من التآكل الذي ينخر كالسوس بصورة مذهلة في عظام المجتمع.ويضربه في مقتل.
الحكومة غير مطالبة باختراع العجلة. بل عليها محاكاة تجارب اقتصادية ناجحة لمجتمعات لها نفس ظروفنا. وأن تلزم الأغنياء بتحمل نصيبهم العادل من فاتورة الإصلاح. ولو بفرض ضريبة تصاعدية يطبقها كثير من الدول الرأسمالية دون أن تسمع للمرجفين صوتًا زاعقًا يحذر من هروب الاستثمار وفرار المستثمرين كالذي نراه في بلادنا.. فلو كانوا جادين صادقين ما فعلوا.. وإلا فما حاجتنا للمستغلين النفعيين الذين لا يعرفون لاستقرار الأوطان قيمة ولا حرمة.
نرجو أن تسارع الحكومة لميكنة الإجراءات الإدارية لتنجز مصالح الناس بأقل جهد ووقت ممكنة.. عليها الجلوس إلي المستثمرين المحليين. وتذليل العقبات أمامهم فلن يبني هذا الوطن سوي رأسمالية وطنية شريفة قادرة علي ضخ مزيد من الاستثمارات في شرايين الاقتصاد القومي.. وعليها أيضًا تفعيل قانون ¢الخدمة المدنية¢ الذي وافق عليه البرلمان. والدفع بالكفاءات لمراكز القيادة. وتنظيف دواليب العمل الحكومية من الفاسدين وأعداء التطوير والنجاح.. وأن تراقب مردود قراراتها علي الناس سلبًا وإيجابًا. وأن تبادر بالتصحيح الفوري للأخطاء. والرد علي الشائعات كالتي نشرتها إحدي الصحف زاعمة اشتراط صندوق النقد الدولي تسريح مليوني موظف حكومي للموافقة علي القرض وهو ما نفاه مجلس الوزراء جملة وتفصيلا.
آن الأوان لتنفيذ الحد الأدني للأجور لجميع العاملين بالدولة. وضبط معايير الحد الأقصي. وعدم التوسع في الأرقام والاستثناءات. وتحسين أحوال التعليم والصحة وتدريب العمالة ودعم الطبقة الوسطي حاضنة القيم والإبداع وصانعة التقدم لأي مجتمع.
وعلي الإعلام أن يشرح للناس حقيقة ما يعانيه اقتصادنا. ووجوب ترشيد الإنفاق الحكومي والاستيراد. ومنع الاستيراد السفهي. وتطوير الصادرات وزيادة قدرتها التنافسية. وتحسين أحوال السياحة ودوران عجلة الإنتاج بأقصي سرعة. وفتح المصانع المعطلة. وإعطاء كل ذي حق حقه.
الحكومة في اختبار صعب.. فكيف ستحمي الفقراء والطبقة الوسطي التي تئن من وطأة الغلاء والتضخم وانخفاض القيمة الشرائية للجنيه.. كيف ستجنب السواد الأعظم من الشعب تبعات الإصلاح الاقتصادي دون مزيد من الأعباء.. نحن في حاجة لحكومة حرب.. واقتصاد حرب.. حتي لا تتضاعف فاتورة الإصلاح؟!