مؤمن الهباء
شهادة .. المعقول.. واللامعقول
هناك حديث يتردد كثيراً هذه الأيام حول الدعم وما يمثله من عبء ثقيل علي ميزانية الدولة بعد أن وصلت أرقامه إلي ما يقارب 200 مليار جنيه.. واللافتة المعلنة وراء هذا الحديث هي ترشيد الدعم.. لكن المضمون ينصب علي ضرورة إلغائه أو تخفيضه لتصحيح الأوضاع التي أصبحت غير معقولة.
سهام كثيرة موجهة الآن إلي الدعم باعتباره السبب - أو السبب الرئيسي - في المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها مصر حالياً.. وبرامج "التوك شو" تمهد الأرض وتجهز الأجواء لما هو قادم من قرارات صعبة بشأن الدعم لإقناع الناس بأن الإلغاء أو التخفيض في صالحهم.. لأنه سيؤدي إلي إصلاح الميزانية وإصلاح الاقتصاد المتدهور.
لا يتحدث أحد - في هذا الصدد - عن فاتورة الفساد التي تلتهم الجانب الأكبر من الميزانية.. ولا عن كلفة دولة المستشارين الذين تتجاوز أجورهم ضعف الحد الأقصي الذي حدده القانون للأجور.. ولا عن الديون وفوائدها التي تتعاظم يوماً بعد يوم حتي صارت رقماً مخيفاً في الميزانية.. ولا عن التهرب الضريبي.
لا يتحدث أحد عن السياحة المضروبة.. ولا عن انخفاض عوائد قناة السويس.. ولا عن المصانع المغلقة وتم تسريح العاملين فيها لينضموا إلي طابور العاطلين.. ولا عن البطالة التي تحرم البلد من عقول وأيادي أبنائها الشبان الذين لديهم الطاقة والقدرة علي العطاء والتغيير.. ولا عن الآثار السلبية لظاهرة العائدين من ليبيا ودول الخليج.. واللاجئين من أشقائنا الذين تدفقوا علينا كما تدققوا علي بلدان أخري كثيرة وأضافوا أعباء جديدة علي ميزانية الدولة.. ولا عن الانهيار المتسارع لقيمة الجنيه أمام الدولار والعملات الأجنبية.
المهم.. أن هناك أسباباً عديدة حقيقية للأزمة الاقتصادية.. والدعم أحد هذه الأسباب.. ومن ثم يجب أن تتحدث عن ترشيده وتصويب مساراته حتي يصل إلي مستحقيه الحقيقيين ويكون مؤثراً وفاعلاً في تيسير معيشتهم.. ولا تأكله الحيتان فيفقد مفعوله ولا يحقق هدفه.
ليس معقولاً - مثلاً - أن يحصل أصحاب القصور والفيلات الفارهة والطائرات علي البنزين والكهرباء والغاز والمياه بنفس الأسعار التي يحصل عليها الموظفون والعمال والفلاحون.. هم أنفسهم يقولون ذلك.. لكن المهم هنا هو كيف نعالج هذا الوضع.. هل يكون الحل برفع أسعار البنزين والكهرباء والغاز والمياه فتشتعل الأسعار في الأسواق والمواصلات وكل مناحي الحياة.. ويئن الناس أكثر وأكثر.. أم نضع ضريبة علي الأغنياء القادرين - كما طالبوا هم - ونعيد النظر في دعم المصدرين ونرفع الحد الأقصي للضريبة ونطبق الضرائب التصاعدية لسد عجز الموازنة وتحقيق الحد الأدني من العدالة الاجتماعية المنشودة.
نعم.. ليس معقولاً أن تصل أرقام الدعم إلي 200 مليار جنيه.. لكن ليس معقولاً أيضاً أن تظل الأجور والمرتبات متدينة إلي حد غير محتمل بينما ترتفع معدلات التضخم كالصاروخ.. وتهبط قيمة الجنيه إلي الضعف في عامين.. بحيث لم يعد في مقدور وكيل الوزارة الشريف أن يوفي احتياجاته الأساسية من دخله المشروع.
وليس معقولاً أن تستولي الحكومة علي أموال المعاشات والتأمينات وتحرم المواطن من معاش كريم بعد رحلة عطاء طويلة.. هل تصدق أن معاش الصحفي الذي عمل 35 عاماً في مواقع قيادية ووصل إلي منصب رئيس التحرير لا يزيد عن 1200 جنيه؟!
هناك أشياء كثيرة في مصر غير معقولة.. وعلي من يريد إعادة ترتيب البيت أن ينظر إلي كل الزوايا والحجرات.. وأن يضيء النور ويفتح النوافذ حتي يري كل الأشياء علي حقيقتها.. ولا يكتفي بمن يزينون له ما يريد.. هناك مظالم كثيرة.. وأوضاع معكوسة.. ولا يصح أن يكون الحل دائماً علي حساب الغلابة.