(1)
شعر القاضي باليأس من تحقيق العدالة في بلدٍ يفلت فيه القتلة والمغتصبون وتجار المخدرات من العقاب، نتيجة ثغرات قانونية وأخطاء في الإجراءات يستغلها المتلاعبون من المحامين والسلطات التنفيذية، والقضائية أيضا، فقد أفلت سفاح يقتل الأطفال بعد اغتصابهم، لأن سبب تفتيش سيارته لم يكن يتعلق بجريمة القتل، بل بالتحقق من رخصة تسيير السيارة التي اشتبهت فيها الشرطة!.
وفي غمرة يأس القاضي ستيفن هاردن عرض عليه زميله (بنيامين كولفيلد) الانضمام إلى هيئة محكمة سرية، قام بتشكيلها من 9 أعضاء فقط لنظر القضايا الخطيرة التي يفلت مرتكبوها، ثم تنفيذ أحكام الإعدام في المدانين بواسطة فريق خاص بالمحكمة التي أطلقت على نفسها اسم “غرفة النجمة”.
(2)
قصة ستيفن هاردن، ليست واقعية تماما، لأنها محور أحداث الفيلم الأمريكي “The Star Chamber” الذي كتبه رودريك تايلور بالاشتراك مع المخرج بيتر هايمز، وقام مايكل دوجلاس بدور (القاضي/المثال) هاردن، فيما قام هال هولبروك بدور (القاضي/الجلاد) كولفيلد، لكن القصة الدرامية ليست محض خيال، فهي تتجاوز حالة التسلية والتشويق على سطح الشاشة الفضية، إلى أغوار الدائرة الغامضة.. دائرة الحكم، التي تتقاطع فيها محاور الأجهزة، ومصالح القوى المؤثرة، والعلاقات المركبة بين أقطار واقطاب الدائرة، وبرغم أن الفيلم سعى في مشاهد النهاية لتحقيق نوع من التوازن التلفيقي، ليعيد الاعتبار لمنصة العدالة الرسمية، بصرف النظر عن أخطائها.. (فهذه سمة كل فعل إنساني)، لكن عنوان الفيلم كان طريقنا للذهاب إلى ما نريد… إلى شؤون السياسة والحكم، حيث تتلاعب السلطة بالقضاء لتصفية المعارضين، وممارسة القمع والهيمنة تحت ستار قانوني لا يأبه بالمبدأ الشهير: “العدل أساس المُلك”، فالعنوان (ستار تشمبر) يشير إلى محكمة سرية تأسست في انجلترا خلال العصور الوسطى، في محاولة من المَلِك لاستعادة صلاحياته المطلقة التي نالت منها وثيقة الحريات المدنية المعروفة بالماجنا كارتا.
(3)
* السؤال الذي يفرض نفسه في هذه اللحظة هو: هل أسس نظام الحكم في مصر “غرفة سرية” لفرض توجهات سياسية معينة لاعلاقة لها بالقانون والدستور؟، وهل راح المستشار هشام جنينة ضحية لـ”ستار تشمبر مصرية” تأسست في مرحلة تكاتف أجهزة الحكم من أجل استعادة مقاليد الأمور قبيل 30 يونيو ما تلاها من إجراءات؟.
– لا داعي للتسرع في تقديم إجابات، من الأفضل أن نقرأ تجارب التاريخ لنبحث عن تفسيرات قريبة من الواقع، تساعدنا بعد ذلك على تتبع القرائن والأدلة، لتبدو الحقيقة أوضح بقدر الإمكان
(4)
في ظلام العصور الوسطى كانت سلطة الكنسية تتواطأ مع سلطة المَلك الانجليزي ذات الطابع الإلهي، وفي القرن الـ 13 تمرد البارونات في انجلترا لحماية امتيازاتهم بقوانين مدنية، ونجحوا في فرض وثيقة (سميت ماجنا كارتا) للحد من سلطات الملك المطلقة، وإجباره على احترام الحريات الفردية، وتم تشكيل مجلس عام من أصحاب المال والنفوذ، سمي “المجلس العظيم” بهدف مراعاة مصالح البلاد، إذا تعارضت مع سياسات الحاكم، حيث كان من حق المجلس نقض يمين الولاء للملك إذا اقتضت الظروف، ومن المفهوم أن المجلس “العظيم” كان يضم أصحاب النفوذ وليس نوابا منتخبين، وبالتالي تصاعد صراع المصالح لزمن طويل، وجرت تعديلات كثيرة على “الماجنا كارتا”، كان جوهرها ضمان عدم احتجاز أو سجن أي مواطن حر أو انتزاع أملاكه أو حرياته أو حقه في ممارسة حياته دون ملاحقات تتستر وراء مظهر القانون والعدالة، ونصت الوثيقة ايضا أن الغرامات يجب أن تتناسب مع المخالفة، ولا تخضع لقواعد الكنيسة في محاكمتها لرجال الدِّين، فأفراد الشعب يحاكمهم أقرانهم وفقط، كما أن رجال الحكم يجب ألّا ينصبوا أنفسهم قضاة في المحاكمات الجنائية، وفي ظل الصراع الطويل بين نفوذ كل من “المجلس العظيم” و”المجلس الملكي” الذي كان مجرد تابع للملك في كل الأحوال، قام القصر في نهاية القرن الـ14 (عام 1398م)، بتشكيل محكمة سرية برئاسة الملك للنظر في القضايا الخطيرة بشكل منفصل عن القانون العام، وفي منتصف القرن الـ15 شاع أمر المحكمة السرية التي أخذت اسمها من المصطلح اللاتيني “كاميرا ستيللاتا” أو “ستار تشمبر” أي “غرفة النجوم”.
(5)
ليس لدي تفسير سياسي أو قانوني أو إنساني لما حدث مع المستشار زكريا عبد العزيز، ثم المستشار جنينة، ومن قبلهم عشرات القضاة المتهمين بممارسة العمل السياسي، مع أن المستشار الزند ظل يمارس السياسة على الهواء مباشرة، ثم جاء وزيرا للعدل، وليس لدي تصور لكيفية اتخاذ قرارات من نوع إقالة الزند نفسه، أو تصفية حالة توفيق عكاشة، لكن يبدو أن الأمر لا يمكن فهمه بالتكهنات الشخصية، ولا بالمعلومات المنقولة، لهذا دعونا نكمل قراءة تجربة “ستار تشمبر” في مرآة التاريخ الأسود للعصور الوسطى
(6)
توحشت المحكمة العجيبة “ستار تشمبر”، واتخذت قانونها الخاص في عصر الملك هنري السابع، الذي استخدمها لمعاقبة وتصفية وإخضاع خصومه من البارونات وأثرياء الطبقة العليا، حيث صارت “غرفة النجوم” محكمة خاصة فوق كل المحاكم وفوق المجلس العظيم (البرلمان حاليا)، وبالرغم من أن المحكمة امتازت في بعض الفترات بتحقيق العدالة، وتسريع التقاضي في القضايا التي عجز القضاء العادي عن النظر فيها لقوة شوكة المتهمين، إلا أن السمة الأبرز للمحكمة تمثلت في توظيفها السياسي لقمع خصوم الملك، وتوجيه اتهامات جزافية تحت دعاوى “محاولة التآمر”، والتشهير، وشهادة الزور (وهي تعني حرفيا ما حوكم وأدين به المستشار جنينة بتهمة نشر أخبار كاذبة)، وبالطبع كانت “ستار تشمبر” تنظر الكثير من القضايا التي تتعلق بتهم من نوع الفتنة وإثارة القلاقل والشغب للتأثير على نظام الحكم، وهكذا استخدم الملك هنري السابع محكمته الخاصة لكسر أي قوة تعارضه سواء من ملاك الأراضي، أو من المطالبين باستعادة تفعيل مبادئ “الماجنا كارتا” والحقوق المدنية التي جار عليها هنري السابع وخلفه هنري الثامن، الذي تحولت المحكمة في عهده إلى سلاح سياسي مباشر ضد المعارضين، في ظل ذلك القمع ازدهر الخوف والنفاق، وزادت أعداد الرؤوس الطائرة، فبدأت الكنيسة وسلطات الحكم الأخرى، وشخصيات الطبقة العليا، تعيد تكييف نفسها لتفادي الوقوف أمام هذه المحكمة المتعنتة كمتهمين أو حتى كشهود، فالمصير مأساوي في كل الأحوال، لأن “غرفة النجوم” لا تعترف بقانون، ولا تهتم بعدالة، لأنها مجرد أداة تنكيل بمن يقف في طريق الملك، الذي لم يفهم بعد أن عصر الحاكم الإله قد انتهى، وأن ثورة التنوير، قد أضاءت الطريق للخروج من ظلام العصور الوسطى.
وللحديث بقية.