البديل
أحمد حسنى
صناعة الكراهية
هل أصبحنا شعبا عنصريا، يتنفس الكراهية ويسعى كل طرف فيه لإذلال الآخر والتحكم في مصيره، وربما سحقه؟ الرد على سؤال مثل هذا لا يمكن أن يكون إلا بالإيجاب، وأسوق لك عددا من الأدلة والشواهد اليومية التي حدثت مؤخرا، وتؤكد صدق هذه الإجابة وموضوعيتها.

أول هذه الأدلة، موجة السخرية غير المبررة من سلوكيات المصطافين البسطاء في شرم الشيخ والغردقة، إذ تناقل كثيرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، صورا كثيرة، مصحوبة بتعليقات أغلبها غاية في البذاءة، للسخرية من هؤلاء الغلابة والتدليل على “دونيّتهم”.

وإن كانت سلوكيات هؤلاء مخالفة للصورة التي يجب أن تظهر عليها السياحة في مصر، فليس ذنبهم أنهم فقراء لا يجيدون التصرف في المناطق السياحية، ولا يصح لنا أن نحرمهم من التمتع بجمال بلدهم، ومن يستحق اللوم هنا هي الهيئات المعنية بتنشيط السياحة، لأنها لم تقم بواجبها في توعيتهم، ولو مارست قليلا من التنظيم ربما اختلفت الصورة.

مثال ثان، وقع قبل أيام قليلة، إذ منعت موظفة بكلية التربية الفنية جامعة حلوان، فنانة تشكيلية شابة، حاصلة على درجة الماجستير، اسمها لمياء السيد، من دخول الكلية بحجة ارتدائها “مايكروجيب”، متعلّلة بصدور تعليمات من إدارة الكلية بذلك، وقالت الموظفة للفنانة الشابة: “الكلية اسمها تربية ولبسك لا يدل على ذلك”.

إضافة إلى ما سبق، يأتي وقوع عدد غير مسبوق من الحوادث الطائفية خلال شهر، أغلبها بسبب رفض مسلمين السماح لمسيحيين ببناء كنائس، أو تأدية شعائر دينهم في أحد البيوت، وما خلفته من قتلى وإصابات وحرقا وتدميرا، كدليل على عنصرية المجتمع.

وقبل أسبوعين تقريبا، تم الاعتداء على حملة الماجستير والدكتوراة أمام مجلس النواب، بعد سنوات من التمييز بينهم وبين زملائهم أبناء الكبار، وبدلا من الإدانة وفّرت إحدى النائبات غطاء لهذا الاعتداء، بقولها: “فيهم ناس واخدة الدكتوراة في حتى ومتى والكلام ده”.

بعيدا عن كل ما سبق من أمثلة جزئية، تبقى الصورة العامة الدامغة، أن المجتمع انقسم إلى تيارات سياسية متناحرة، كل منها يرفض الاعتراف بحق الآخر في التفكير والتعبير وممارسة العمل السياسي، وجميعها تسعى لمصادر المجال السياسي العام لنفسها.

الأحداث السابقة، وغيرها، ليست مجرد وقائع فردية، إنما هي وقائع متكررة بشكل متواصل، وتكاد تكون يومية، بصورة تفضح المجتمع وتكشف تمكن العنصرية منه، وتبرهن على أن التمييز صار أسلوبا فى التعامل بين المختلفين فى اللون والدين والجنس والوضع الاجتماعي والمستوى الثقافي.

الأكثر فداحة من ذلك، أن الدولة بمؤسساتها متورطة في صناعة التمييز وترسيخه بين أبناء المجتمع، إلى درجة صارت معها الفرق التي تمارس التمييز، والتي تعاني منه، في صراع دائم ومتجدد، لا يكاد يهدأ، ما يصنع شروخا واضحة فى بنية المجتمع، تترك مساحة مثالية ليتغلغل الحقد والكره شاغلا فراغات وتخلخلات هذه الشروخ.

الغريب، أنك لو واجهت الأطراف التي تمارس التمييز والعنصرية، وأولها مؤسسات الدولة، سترفض وصف أفعالها بذلك، ولا يمكنك إقناع هذه الأطراف أن قانون تعيين أبناء العاملين، لمجرد أن آباءهم يعملون في الجهاز الإداري، أو تقديم أبناء القضاة والدبلوماسيين على غيرهم في فرص العمل بالهيئات القضائية والسلك الدبلوماسي، ومنح الأولوية لأبناء ضباط الشرطة والجيش على أقرانهم من أبناء الفقراء للالتحاق بالكليات العسكرية، أفعال تمييزية وعنصرية لصالح أقلية متمايزة، ضد أغلبية ساحقة، شاءت إرادة الله أن يولدوا لآباء من غير العاملين بتلك الهيئات، ولا يملكون سلطة أو نفوذا حاكمين لإرادة الدولة وفكرة القانون العادل المجرد. باختصار، لن يعترف الرجال بالتمييز ضد النساء، ولن يعترف الأغنياء بالتمييز ضد الفقراء، ولن يُقر المسلمون بالتمييز ضد المسيحيين، ومع تصاعد الموجة العنصرية بين كل الأطراف وعلى كل المستويات، يصر كل طرف على أنه هو فقط الذي يستحق الديمقراطية والحرية وتطبيق حقوق الإنسان، بينما لا يستحق الطرف الآخر إلا الإذلال والسحق وربما القتل. وإذا كان تعريف العنصرية في كتب علم الاجتماع، أنها مجموعة من السلوكيات والمعتقدات التي تعلي من شأن فئة على حساب فئة أخرى، وتعطي الأولى الحق في التحكم في مصير الثانية، فإن غالبية أفعالنا اليومية، الرسمية والشعبية، تندرج تحت لافتة التمييز وفق هذا المفهوم، صانعة منظومة اجتماعية وثقافية مختلة ومعتلة، أسس لها الفساد ورسخ لها ودعمها الاستبداد.

الأمم صاحبة الضمائر الحية فقط هي التي تستطيع مواجهة نفسها بما حدث في نسيجها من تغيرات، وتعترف بتحولاتها الإنسانية، وتتحرك لمواجهتها إذا كانت تلك التحولات تمثل خطرا على وجودها وسلامها الاجتماعي، والحقيقة أنه ليس هناك خطر أكثر من انتشار الكراهية والعنصرية بين أبناء المجتمع.

للزعيم الأفريقي الراحل نيلسون مانديلا مقولة تاريخية عن العنصرية التي يتشربها الإنسان بفعل سياسات الأنظمة التي تحكمه، محتواها: “لا يوجد إنسان وُلِد يكره إنسانا آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه، الناس تعلمت الكراهية، وإذا كان بالإمكان تعليمهم الكراهية فإن بالإمكان تعليمهم الحب، خاصة أن الحب أقرب إلى القلب”.

المسألة هنا لا تحتاج – بأية حال من الأحوال – لتتبع نقاط البداية لكل حالة تمييز عنصري، لأن الأسباب واضحة ومعروفة، وأغلبها يتم بيد الدولة ومؤسساتها، لكننا نحتاج إلى محو كل القوانين والسلوكيات التمييزية، التي تفرق بين أبناء الشعب وتنشر شعورا بالضعف وقلة الحيلة بين الفئات الضعيفة، وشعورا مضادا بالقوة والهيمنة والقدرة على التحكم فى مصائر الناس بين الفئات صاحبة النفوذ.

الحل في تجريد القانون وموضوعيته، والانتصار لميزان العدالة الأعمى، الذي لا تخيفه رتبة، ولا يزغلل عينيه مغنم، ولا يقف على أبواب المهمين ليزن لهم لحوم الفقراء وحقوقهم، ويبيعها بثمن بخس.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف