مؤخرا، أصبح كُل شيء ينذر بمعركة، بل أصبحت المعارك الكلامية والمشاحنات أسهل الطرق للتعامل مع الحدث أو التعبير عن الفكرة، ففريق كارهي يوم الثلاثاء يناطحون محبّيه، بينما رابطة عشاق فصل الصيف لا تترك مناسبة دون تعكير مزاج عشاق الشتاء، وكذلك تقوم معارك طاحنة بين عشاق مطرب وكارهيه وتدور الحياة حولنا ليأخذ فيلم “اشتباك” دوره في لعبة البحث عن معركة.
لسبب ما قرر مخرج ومؤلف الفيلم “محمد دياب” أن يبدأ اللعبة بنفسه ويترك الحديث عن الاحتفاء بالفيلم خلال مشاركته في مهرجان كان السينمائي الدولي في مسابقة “نظرة ما”، كما أفسد تقدير نجم كبير مثل “توم هانكس” لعمله ليتحدث أكثر عن أعداء الفيلم وأعداء النجاح وعن كل أنواع الأعداء إلى أن بدأ الحديث مؤخراً وقبيل نزول الفيلم في دور العرض عن محاولات منع وحرب غير معلنة يجب بمقتضاها أن يشاهد الجمهور فيلمه لدعمه في مواجهتها.
ورغم أن الكثير من محبي السينما كانوا في انتظار العرض العام للفيلم، إلا أن طريقة الترويج التي اتبعها دياب لم تجد استحسان عدد ليس بقليل حتى ممن شاهدوا الفيلم وحتى ممن أعجبهم بالفعل، ولهؤلاء منطقهم كأشخاص معجبين بعمل سينمائي لا يريدون له أن تأتي دعايته على هذا النحو حتى وإن كان الفيلم يتعرض لمحاولات تشويه وحرب، فدعم السينما لا يأتي بالمشاهدة الكيدية للأفلام بل يأتي من خلال أمور كثيرة لا يملك الجمهور منها إلا أن يحب السينما فعلاً ويتذوقها كأي نوع من أنواع الفن، وأن يستغل منصبه كمشاهد في انتقاد ما يجد فيه ما يُنتقد ومدح ما يستحسنه.
كما أن المشاهد ليس في موقف الداعم الأعمى لما لم ير، وذلك بالإضافة إلى أن مشاهدة العمل لا يجب أن تكون وسيلة لدعمه كما لا يجب أن يرى صانع الفن أن تلقّي العمل هو وسيلة لدعمه، فالفن يُصنع لخلق الجمال لا لتوجيه رسالة والفنان يطرح عمله للتلقّي الجماهيري لا ليحصل على دعم بل ليقدّم به ما في جعبته أو ما يستطيع تقديمه ويصبح بموجبه صانعاً للفن.
لم تكن مفاجأة أن يأتي “اشتباك” على نحو مثير للجدل كعمل فنّي – بعيداً عن أمر الدعاية- حيث اعتمد صنّاعه على التجرّد من الرأي والرؤية بقدر الإمكان ليرى المشاهد الأحداث من خلال عينه لا تحيّزه، فالفن ليس مسؤولاً عن تكوين ونشر وإعلان وجهة نظر بعينها، فبالتأكيد هناك فارق بين العمل السينمائي ومقال الرأي.
لكن المفاجأة، كانت قدرة حقيقية على صناعة فيلم تدور أحداثه في مكان واحد مغلق على شخصيات ثابتة دون ملل، بالإضافة إلى نقل شعور حقيقي بشخصيات القصة ومعاناتهم بكل تلك الدقة مع إبراز حقيقي لذواتهم ورسم جيد جداً لتركيباتهم الشخصية على هذا النحو الدقيق.
جسّد المطرب “هاني عادل” شخصية الصحفي الميداني مزدوج الجنسية “مصري-أميركي” واستطاع أن يبرز النظرة (السياحية) التي يرى بها هؤلاء كل شيء، بدءًا من معاناة الناس وثورتهم والأحداث المأساوية التي يمرّون بها، وأن عينه ليست سوى عدسة كاميرا تود أن تدوّن المشاهد وتحتفظ بها أكثر من السعي إلى الدراية الحقيقية بتلك المعاناة، وهذه الأحداث المؤلمة.
لم يخل “اشتباك” من المفاجآت أيضاً في تجسيد شخصية البدوي من خلال الممثل “عمرو القاضي” الذي أتقن اللهجة إلى حد البراعة واستطاع أن يخلق خطّاً موازياً داخل الدراما، متمثلا في رصد زاوية الرؤية لدى هؤلاء الذين لا يعلم عنهم الكثيرون؛ كيف ينحازون ولمن ولماذا يتخذون مواقفاً على هذا النحو.
أما المفاجآت الكبرى، كانت لدى اثنين من الممثلين الصاعدين هما “أحمد مالك” و”محمد جمال كلبظ”، فقد استطاع مالك أن يجسّد شخصية الفتى الشعبي بصراعاته الداخلية وميوله واهتماماته كما تمكّن من تلخيص كل تلك التفاصيل التي تضمها الشخصية في لقطة أحسبها أفضل لقطات الفيلم على الإطلاق؛ حيث واجه صراعات الجميع وهتافاتهم المنحازة هنا وهناك بوضع هاتفه على أذنه مستمعاً لأغنية شعبية (هاتي بوسة يا بت) بينما يسد أذنه الأخرى بيده ويبكي ويجلس على أرض سيارة الترحيلات.
هنا استطاع أحمد مالك أن يقول للجميع إن الممثل الفاهم لدوره وبناء شخصيته يستطيع أن يخلق لنفسه أدوات من العدم وأن يقدّم نفسه أيضاً كبادرة أمل في نوع متميز جداً من الممثلين الأذكياء، أما “محمد جمال” فقط تمكّن باقتدار من تقديم شخصية الإخواني الذي لا يستطيع مقاومة حبه للفن والذي يحاول إخفاء خفة ظلّه خلف ملامح صارمة وتصرفات عنيفة متخلياً عن القالب الكوميدي الذي اعتاد عليه من خلال أعماله مع الفنان “أحمد مكي” وغيره، متجهاً لإبراز جزء من موهبته الحقيقية في التمثيل البسيط البارع، وهنا نجح في انتزاع تصفيق حار من داخل المُشاهد.
لم يخل أيضاً العمل من الكليشيهات في الحوار التي حارب الممثلون لإخراجها من السياق المبتذل عن طريق الأداء المتميز وتقطيع الجُمل بذكاء تمكّنوا من خلاله من إسقاط الابتذال عن الكثير من الجمل الحوارية التي كادت تُفقد العمل رونقه، فـ”اشتباك” كان بمثابة باب جديد يُفتح من خلال فلسفة “بين السماء والأرض” للعبقري نجيب محفوظ لتُقدَّم في ثوب حديث عن طريق مجموعة متمكّنة من الممثلين الذين حملوا العمل على أعناقهم حرفياً.