(1)
في مثل هذه الأيام قبل 5 سنوات، كان النظام في قفص الاتهام، وظهر على الشاشة الرئيس مبارك في وضع أفقي راقدا على سرير يستمع إلى المستشار أحمد رفعت وهو يعدد الاتهامات الموجهة له ولوزير داخلتيه وكبار مساعديه، ولولديه علاء وجمال، وقال القاضي للرئيس المخلوع: سمعت الاتهامات التي وجهتها النيابة العامة إليك، فما قولك؟
رد مبارك: “كل هذه الاتهامات أنا أنكرها كاملة”، ورد المتهم الثالث علاء مبارك بنفس الصياغة تقريبا: “تماما… أنكرها جميعا”، وقال المتهم الرابع جمال: “أنكرها كلها تماما”.
(2)
الإنكار التام كان القاسم المشترك في أقوال رأس النظام وأجنحته، وأعتقد أنه لم يكن مجرد تعليمات من فريق الدفاع، لكنها سياسة عتيقة تسيطر على ذهن الطبقة الحاكمة وذيولها، لذلك أعجبني العنوان الذي استخدمه محرر مجلة الايكونوميست البريطانية لوصف حالة النظام المصري الحالي “State of denial” والترجمة المفضلة عندي هي “دولة الإنكار”، وهو عنوان رأي صريح يختصر التفاصيل الكثيرة في “استخلاص” بلاغي نهائي، وهذه الطريقة لا تلجأ إليها الصحف والكبرى إلا عندما يكون “الاستخلاص مدعم بكثير من المعلومات والوقائع التي يصعب إنكارها، ويذكرني هذا العنوان بالمقال الشهير الذي كتبه ايناسيو رامونيه فاضحا إدارة جورج بوش في حرب العراق تحت عنوان “أكاذيب الدولة”، وهي الأكاذيب التي ثبتت مع الأيام برغم تلاعب بوش وتنصل بلير.
(3)
عنوان “دولة الإنكار” جاء ضمن “حملة مستترة” نشرتها “الإيكونوميست” في توقيت يتزامن مع ذكرى افتتاح توسيع قناة السويس، وكان الموضوع الرئيسي فيها بعنوان قطعي أيضا: “تخريب مصر” مع عنوان تمهيدي صغير: “بعد الربيع العربي”، وسطر شارح أسفل العنوان يقول نصه: “القمع وعدم كفاءة.. عبد الفتاح السيسي سيشعل الانتفاضة القادمة”.
لم يعجبني التناول، وتعاملت معه بحذر، فالتوقيت غير برئ، والمعلومات قديمة ومتداولة ومنشورة مرارا وتكرارا في الصحف المصرية ووسائل التواصل الاجتماعي، والأهم أنني أتحفظ على الأداء المهني لعدد كبير من وسائل الإعلام الغربي، ومن بينها “ايكونوميست”، التي باتت توجهاتها مرتبطة بفضائح تمويل ومراكز أبحاث “ثينك تانكس” تتلقى الأموال بطرق أثرت على مصداقيتها، وهذا مما أوضحه رامونيه منذ سنوات في مقاله الشهير، وكشفت عنه أكثر من صحيفة أمريكية في الآونة الأخيرة، من بينها “نيويورك تايمز” و”فاينينشال” واللتان سبقتا “الايكونوميست في نشر ما نشرته مرات كثيرة في العامين السابقين.
لهذه الأسباب الموضوعية، لم أهتم بما نشرته المجلة البريطانية، لأنه بلا جديد إلا التحريض، وإعادة انتاج ما نحفظه من آراء وكلمات هنا داخل مصر، والأهم أنني اشعر كقارئ أنني في مواجهة “حزب سياسي” وليس مجلة، لأن “الايكونوميست” لا تضع اسم محرر أو كاتب على موضوعاتها، وهذا يعني في الصحافة أنك لا تستطيع مناقشة أفكار محرر فرد أو باحث، لكنك تواجه “مؤسسة” لديها توجهات، وتتحمل نتيجة هذه التوجهات، ويصعب على أي قارئ أن يغير أو يؤثر في هذه التوجهات، وهذا أخطر ما في الملف، لأنه يرسم لمصر صورة سلبية جدا في الغرب، وخاصة لدى المستثمرين الذي يلهث نظامنا لإرضائهم دون جدوى.
(4)
لكن لماذا غيرت موقفي وقررت الكتابة عن ملف “الايكونوميست”؟
الإجابة ببساطة تنطلق من العنوان الذي أشرت إليه في بداية المقال: “دولة الإنكار”، فقد استفزتني ردود أفعال العباسيين الموالين للنظام، الذين انبروا يدافعون وينكرون كل الملاحظات والانتقادات التي أوردتها المجلة، وهي انتقادات اعتبرتها “قديمة” ومفقوسة ومعروفة لكل مصري، مثل البطالة، والركود، والتضخم، وانهيار سعر الجنيه، وارتفاع الأسعار بغباء غير محسوب، و”هدر الفرصة” حسب تعبير كريستين لاجارد مدير صندوق النقد الدولي، بل أن الزميل ياسر رزق رئيس مجلس إدارة تحرير الأخبار، والمقرب من رؤوس “دولة الإنكار” كتب مقالاً نموذجياً لإعلام العباسيين، رد فيه على “الايكونوميست” قائلا: أهو انتي اللي خراب وستين خراب كمان، واحنا 100%، شبابنا “نور عينينا” ولا بطالة ولا قمع ولا إحباط ولا أي حاجة، ودولتنا “أد الدنيا” ولا هشاشة ولا أشلاء ولا فلس ولا أي حاجة، والسيسي رئيس وهيترشح 2018 غصب عنك يا ايكونوميست يا إخوانية، بل أنه ربط بين ملف المجلة الدولية المؤثرة في العالم، وبين محاولة اغتيال الشيخ علي جمعة، والرابط أن الأعداء (ايكونوميست والإخوان) مش عاوزين الشعب يفرح، بس احنا بقى هنفرح ونغيظهم، خاصة وان إيرادات القناة زادت 4% وهنعمل أنفاق، وموانئ، واشترينا ميسترال جمال عبد الناصر، وحجزنا واحدة باسم السادات (يعني ناقص اتنين باسم واحدة باسم مبارك، وواحدة باسم مرسي لنصل إلى أم الحاملات باسم السيسي).
(5)
المجلة التي استلهمت موضوعاتها من الشارع المصري (وليس من الخيال) صاغت هذه المعلومات بأسلوب قطعي وواضح، أحيانا يتطرف مثل تعبير “الخراب”، وأحيانا ينقسم بين شطرتين بينهما غرض مثل: “السيسي أكثر قمعا من مبارك، وأقل كفاءة من مرسي” فالأولى مفهومة، والثانية مثيرة للجدل؛ لأن مرسي على الأقل لم يأخذ فرصته في قياس الكفاءة، فقد كان مشروع الترشح للسلطة نفسه هو الخطأ، وليس السياسات التي لم يتيسر له تنفيذ أي شيء منها، لكن يبقى أن بقية التعبيرات محل اتفاق حتى بلسان السلطة وتصريحات سيسيها: “مصر دولة مفلسة”، أهدرت وعود الإصلاح الاقتصادي والاستثمار والتنمية”، محاولة سد العجز بالقروض الخارجية لن يفيد في الهوة الاقتصادية الهائلة.
Capture
(6)
أكثر ما أعجبني في ملف الايكونوميست كاريكاتير الفنان السويسري بيتر شرنك الذي ظهرت فيه الفجوة الاقتصادية في مصر على هيئة هرم مقلوب يتكوم في قاعه الاقتصاد المصري محطماً عاجزا عن النهوض، وأي محاولة لردم هذه الفجوة بأموال القروض تبدو عبثية وغير مؤثرة، فالدولة التي أنفقت الكثير لجذب المستثمرين لا تزال في المركز 131 عالميًا من حيث سهولة الاستثمار، ولا تزال البيروقراطية تعوق كل شئ، ووضعت رابطا لمقال سابق عن تأثير معوقات البيروقراطية على نهوض الاقتصاد المصري، هذا بالإضافة لمظاهر الرشوة والفساد، والارتباك الضريبي والتشريعي، لكن الردود المصرية لم تناقش شيئا من هذا واكتفت بالرد العباسي المتفق عليه: هذه الاتهامات أنكرها جميعا.