لم أكن أتخيل أن هناك علاقة بين أزمة الدولار وظاهرة أطفال الشوارع.. لكن بعض اصدقائي يصرون علي أن العلاقة وثيقة.. فعندما قفز الدولار من ستة جنيهات وثمانين قرشا إلي 13 جنيها وانخفضت قيمة الجنيه بنفس النسبة التي تقارب الضعف كثر المتسولون والمتشردون في الشوارع.. وخصوصا من هؤلاء الأطفال الذين يعملون لحسابهم.. أو لحساب المعلم والمعلمة.
من هؤلاء الأطفال من يتعامل معك بالحسني.. ويطلب ما يريد بالكلمة والدعوات.. ومنهم من يظهر لك عدوانيته لكي تتجنبه بالعطاء.. ومن الطبيعي أن تختلف ردود أفعالنا تجاه هؤلاء الأطفال.. بعضنا يقسو عليهم لأنهم ظاهرة مسيئة للمجتمع.. وبعضنا يحنو عليهم لأنهم أبناؤنا وأنهم إفراز هذا المجتمع وأزماته.. ولم يهبطوا علينا من المريخ.. بعضنا يري ضرورة مواجهتهم بالعقاب الصارم.. وبعضنا يفضل التعامل معهم بإنسانية.. يعذرهم ويمد يده إليهم حتي يعودوا مواطنين صالحين.. ويندمجوا في المجتمع بسهولة ويسر.
في الأسبوع الماضي تلقيت رسالة علي بريدي الالكتروني من الصديقة شيماء زيدان تحكي فيها تجربة خاصة لها مع واحد من أطفال الشوارع حاول استفزازها.. لكنها استطاعت بشيء من اللطف والعطف أن ترد إليه إنسانيته.. فتحول في لحظة إلي طفل وديع جميل لا يختلف عن أبنائنا في شيء.
تقول الرسالة:
أحرص دائما علي إغلاق زجاج سيارتي حتي لا تزعجني الضوضاء أو يزعجني الحر القائظ.. وفي إحدي الإشارات سرحت للحظة.. ثم تنبهت فجأة علي منظر مستفز.. صبي ضئيل الحجم لا يتجاوز العاشرة من عمره يخبط مرآة السيارة بشدة.. هممت بأن افتح باب السيارة وأتعامل معه بالخشونة الواجبة أو أسلمه لضابط المرور.. لكنني فكرت بسرعة: ما الذي جعله يفعل ذلك؟!.. لماذا حاول أن يضايقني ويؤذيني دون سبب.. وهو حتي لا يعرف اسمي؟!
قلت في نفسي: لا شك أن لدي هذا الطفل وأمثاله طاقة سلبية ضد المجتمع.. وغضباً مكتوماً تجاه الناس جميعا.. وأنا منهم.. وقررت أن أتعامل معه بشكل مختلف.. وهو مازال يحوم حول السيارة.
ضحكت له في المرآة.. وفتحت زجاج السيارة.. وأشرت إليه بيدي ليقترب.. وهو مازال واقفا زائغ البصر متشككاً.. يريد أن يتأكد أنني أضحك ولست مستفزة ولا أضمر له شرا.. ثم التفت إليه مبتسمة وأنا أقول:
تعال.. اسمك إيه؟!
اقترب مني قليلا قائلا: محمد.. اسمي محمد.
خبطني ليه يا محمد.
معلهش.. ما تزعليش.. ما اقصدش.
انت في سنة كام يا محمد
أنا مش في مدرسة.
مددت له يدي بقطعة من الشيكولاتة.. وطبطبت عليه.. فأخذها مبتسما وتركني... وراح.
بصراحة.. كان بودي أن أقول له حقك عليّ يا محمد.. حقك علينا كلنا.. نحن آسفون لك ياحبيبي لأن ظروفك هي التي أوصلتك لهذه الحالة.. نحن آسفون لأننا لم نشعر بك.. ولأن الزمن الذي وجدت فيه والظروف والمجتمع الذي تعيش فيه قد حرموك من أبسط حقوقك.. وزرعوا بداخلك كمية هائلة من الغضب والعدوانية لا تحتملها سنك.
نحن آسفون يا ابني.. لأن الدولار المتوحش استطاع أن يخرجك وكثيرين مثلك من منطقة الستر بين جدران أربعة إلي العراء في الشارع.. والجنيه الضعيف قليل الحيلة لم تعد لديه أية قدرة علي ضمان حياة كريمة لك ولأمثالك.
آسفون يامحمد.. فقد تغيرت البلاد ومن عليها.. لكن الأمل مازال موجودا.. ومؤكد سيكون الغد أفضل من اليوم.