لا تسألوا الناس أسألوا الظروف.. جملة قرأتها لإحسان عبدالقدوس وكنت مثل بنات زماني نحب هذا الكاتب ونخبئ قصصه داخل شنطة المدرسة.. تؤثرنا عناوينه "النساء لهن أسنان بيضاء.. النظارة السوداء".
وتبهرنا بطلاته المتحررات في وقت كان أهلنا يكبلوننا بالقيود. ففي بيتنا كانت غرفة الصالون لها باب مستقل علي السلم غير باب الشقة الذي ندخل ونخرج منه. أما باب الصالون فهو لأي رجل من الأقارب أو أصدقاء إخوتي الأربعة. لا تقع عيوننا عليهم.. ولا هم يجرءون النظر إلينا. فأنا وأختي لنا مع أمنا البيت كله إلا هذه الحجرة وتسمي "أوضة الجلوس". ربما لأن الضيوف ليس لهم حق الوقوف. يوماً جاءتني الخادمة تهمس بسر.. قالت: نسيت وحطيت صورتك علي المراية وصاحب أخوكي الدكتور أعجب بها وسأله عنها وبمنتهي السرعة قال أخوكي ده كارت أشتريته وخبأ صورتك في جيبه.
رجال حياتي
هذه كانت حياتي.. الرجل فيها أب.. طيب لدرجة صرت الآن أتعجب منها - فحين زارتنا عمتي وقالت لبابا الأرز الذي تأكله نيء فأجابها: أنا الذي أطلبه من زوجتي هكذا.. وهي ليست حقيقة لكنه حب.. وأخلاق عالية وزوج لا يجرح زوجته ولا يحرجها.
كان يضع كل دخله في صندوق كلنا يستطيع أن يفتحه ونأخذ منه ونشتري ما نريد والفلوس عمرها ما خلصت.. فكل واحد مننا يأخذ وهو يعي أن من يحتاج بعده لابد أن يجد ما يريد.
كان لي أربعة من الإخوة لم أسمع منهم لفظاً خارجاً فإذا وصل أذني كلمة من الشارع علقوا بسرعة بأن هذا كلام "أولاد الشوارع" فتصورت أنه لا يوجد رجل داخل بيته ينطق العيب.
المائدة تجمعنا ونسميها "ترابيزة السفرة" والراديو خلفنا يغني. أذكر مرة وفريد الأطرش يغني الربيع وأنا وأختي نعرف بالمقطع القادم "والزهر يبعت أنفاسه مع النسيم بعدما باسه" ونقوم قبل أن يبدأ الكوبليه ونجري للمطبخ واحدة لتشرب والثانية تعمل سلطة. المهم ألا تخرج من الراديو "بوسة" حتي لو من زهرة لهواء ونحن وسط الرجال فهناك خجل من البنت واحترام لأهل البيت. أما أمي فتضع عيونها علي المائدة وهي سعيدة ببناتها وتربيتها.
كلهم أخوات
في الأفراح والمناسبات كنا نري أقاربنا ونعاملهم كالأخوات فقد كانت الجملة السائدة في بيتنا زواج الأقارب خطر فابتعدنا حتي عن الفكرة.
ليس من قبل المدح أنني كنت طيبة ودودة حنونة بريئة محبة للحياة جذابة مرحة ومتفوقة وحين دخلت الجامعة كان من يجلس بجانبي في المدرج أول رجل من غير المحارم ظننته علي خلق أبي وتصرفات إخوتي. تزوجته بيضاء القلب والقالب وحين واريته التراب ميتاً لففت نفسي بالسواد وكان قلبي قد تفحم بنفس اللون.
أشياء تغيرنا حتي نتعجب من أنفسنا ونغني "أنا مش أنا". لنعود لما بدأنا به وما قالته خبرة إحسان عبدالقدوس إنه المشوار الصعب والبشر الأقسي من حجر.. ولا تسألوا الناس أسألوا الظروف.
صفحة من مذكرات أرملة