شعبان يوسف
الروائي الجزائري «مولود فرعون» شهيد حرب التحرير
وُلد عام 1913 واستشهد فى 15 مارس 1962.. ولحق فى شبابه بدولة الأدب وكتب عدة روايات كتبت له الذيوع والشهرة.
عندما قرر الجزائريون أن يخوضوا حربًا مسلحة ضد المستعمر الاستيطانى الفرنسى منذ عام 1953، وكانت الدولة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر، أى مصر بعد ثورة 23 يوليو عام 1952، داعمة قوية لهذا الكفاح المسلح، تكاتف الجزائريون جميعًا على شعار طرد الفرنسيين من بلادهم، وتحرير الجزائر تحريرا كاملا، بدايةً من تحرير الأرض، ثم تحرير اللسان المسكون باللغة الأخرى والغريبة عن عربيته، ثم تحرير العقل والوجدان، والعودة إلى تفعيل كل المعطيات العربية الإسلامية.
لذلك نشأت فى الجزائر ازدواجية حادة ما زالت تعمل بقوة وضراوة حتى الآن، وهى سبب قائم للصراع الممتد فى الجزائر، وينقسم طرفا هذا الصراع إلى شكلين، الأول هو التيار الإسلامى المتطرف، الذى انفجر بشدة فى التسعينيات، وصعد إلى السلطة بانتخابات سليمة وغير مزوَّرة، وهذا التيار صعد فى الجزائر تحت تراكمات سياسية ضاغطة، وربما فاسدة منذ قيام الثورة، وحصول الجزائر على استقلاله عام 1962، والتيار الثانى، وهو الوجه الآخر للجزائر، وهو الوجه الأمازيغى، الذى يرتبط بأشكال ما زالت فاعلة، بالسيّد الأول الفرنسى، فما زال هذا التيار يستخدم اللغة الفرنسية فى كل تعاملاته، وربما لا يقدّر اللغة العربية كما يجب.
عمومًا هذه قضية أخرى ليست هى المقصودة فى هذا المقال، لكننى أردت أن أنوّه إلى الجزائر التى كانت وما زالت تحمل للفرنسية تقديرا ما، وهذا كان وما زال يتجلى عند المبدعين، رغم أن الفرنسى، وهو المحتل والغازى والمستبِد والمستعمر، لم يترك وسيلة لمحو الشخصية الجزائرية تمامًا.
وعلى هذا الأساس كتب مبدعون جزائريون كثيرون بلغة المستعمر المستبد، وكان على رأسهم الكاتب موضوع هذه السطور «مولود فرعون»، الذى وُلد عام 1913، واستشهد فى 15 مارس 1962، ولحق فى شبابه بدولة الأدب، وكتب عدة روايات كتبت له الذيوع والشهرة والاحترام بين شعبه، وكذلك كتبت له الخلود فى ضمير الجزائريين على مدى الأجيال.
وأسعدتنى وزارة الثقافة الجزائرية بحضور الاحتفالية التى أقيمت له بمناسبة مرور خمسين عامًا على استشهاده فى 15 مارس عام 2012، وكان احتفالا مهيبا، وكنت قد حضرت عدة احتفاليات أخرى فى أوقات مختلفة، برموز فكرية أدبية وسياسية وجزائرية، وأشهد أن وزارة الثقافة الجزائرية تحتفى بالرموز الجزائرية بالقدر الذى يليق بقيمة هذه الرموز.
وبالنسبة إلى مولود فرعون، فقد تمت دعوة مثقفين وكتاب ومبدعين من مختلف البلدان العربية، لتقديم أبحاث ودراسات عن رواياته المهمة، وعلى رأس هذه الروايات رواية «ابن الفقير»، ورواية «الدروب الوعرة»، ثم مجموعة أشعاره الفاتنة، وكل هذه الكتابات كان قد كتبها باللغة الفرنسية، وتم نقلها إلى العربية بواسطة كثير من المترجمين.
وكذلك أعيدت طباعة أعمال مولود فرعون بالعربية والفرنسية فى هذه الاحتفالية، حتى تكون نصوصه متوفرة بين الناس، كذلك تمت دعوة رفاق فرعون، الذين رافقوه فى كل شؤونه، بداية من عمله كمدرس فى بلدته «تيزى وزو»، مرورًا برفاقه فى حقل الأدب، وصولا إلى الذى عملوا معه جنبا إلى جنب فى حرب التحرير، ثم رفاقه اليساريين الفرنسيين، الذين كانوا متعاطفين مع عدالة القضية الجزائرية فى تحررها من الاستعمار الفرنسى.
وغير هذا وذاك، وفّرت الدولة للضيوف على احتفالية مولود فرعون، الذهاب إلى بلدته التى نشأ فيها، وتعلم فى معاهدها، وعمل معلما فى مدارسها، وكذلك دفن فى مقابرها، وذهبنا بالفعل إلى «تيزى وزو»، مسقط رأس فرعون، وهناك استقبلنا أبناء البلدة بترحاب نادر، وراحوا يشرحون لنا بلغة عربية مهشَّمة الظروف التى عاشها مولود فرعون، وأعدوا لنا حفل غداء فى مكان يشبه المندرة المصرية، وكانت مصر حاضرة فى وجداناتهم بقوة، على عكس ما كان وما زال الإعلام البائس يصوّر غير ذلك، وكل مَن ذهب إلى هذه البلاد الأمازيغية، سيدرك القدر الذى يكنّه هؤلاء الريفيون للمصريين، الذين ساعدوهم على التحرر، ومدّوا لهم يد العون فى أثناء حرب التحرير، وبعد ذلك أرسلوا ببعثات لإنهاض اللسان العربى وتعليم الجزائريين «من أول وجديد» الحروف العربية.
ولم يقف الأمر عند ذلك، بل وقفنا جميعا من كل بلاد العالم، أمام مقبرة مولود فرعون، وسط هتافات وتهليلات الجماهير، وكانت القوات المسلحة تقف معنا، لتنطلق من مدافعها بضع طلقات، تحيةً لهذا الكاتب والمقاتل العظيم تحية له.
وهنا لا بد من الإشارة، إلى أن مولود فرعون، كان يكتب يومياته، فى أثناء حرب التحرير، منذ أول نوفمبر عام 1955، حتى 14 مارس 1962، أى قبل استشهاده بيوم واحد، ونشرت هذه اليوميات تحت عنوان «يوميات معركة الجزائر»، فى باريس، ونقلها إلى العربية الكاتب والأديب عبد العاطى جلال، بعد صدورها بباريس ببضعة أشهر قليلة، وتم نشرها مسلسلة فى صحيفة «المساء» القاهرية آنذاك، وهذه حدث ثقافى لم يحدث لكاتب عربى قبله على وجه الإطلاق.
وفى هذه اليوميات يرصد مولود كل الحركات والاحتجاجات والاغتيالات والاتفاقات والخيانات الصغيرة التى حدثت فى أثناء تلك الحرب البغيضة، للدرجة التى كان يسجّل كل شاردة وواردة لها علاقة بإعطاء صورة دقيقة وعميقة عن تلك الحرب، ففى 10 أبريل عام 1956 يكتب: «أحرق بريد ميشيليت أمس دون أن تصلنى تفاصيل كما علمت وأنا بمدينة الجزائر.. إن معركة جديدة احتدمت فى دوربرت.. موسيى قتل فيها بضعة ثوار وجنود وحلاق».
ونلاحظ الدقة التى يرصد بها فرعون يومياته، لتصل الأمانة به إلى حدود كبيرة.