طارق الشناوى
ثورة يناير في عنبر العقلاء!
يومًا ما عندما نرصد ثورتى 25 يناير و30 يونيو وما حدث فيهما وبعدهما، ستصبح هذه المسرحية واحدة من أهم المصادر التى ينبغى أن ننصت إليها ونتأملها، ونعيد قراءة كل تفاصيلها، بقدر ما هى لسان حال هؤلاء الشباب فهى لسان حالنا، إنه رغيف ساخن بنار الفرن من الممكن أن يلهلب لسانك وأنت تتناوله، ولكنك لن تنسى أبدًا مذاقه الخاص.
المسرحية أراها على الجانب الآخر اختبارًا للسلطة، تستطيع أن تقيس بهذا الترمومتر مدى إيمانها بالديمقراطية، وهل هى مجرد شعارات أم ممارسات، أعلم أن هناك دائمًا بداخل كل سلطة مع اختلاف الدرجة ميلًا إلى قمع كل الآراء التى لا تتوافق معها، ولكنى أعلم أيضًا أن التاريخ لن يرحم كل من يتصور أن بيده سلطة مطلقة للمنع أو حتى الحذف.
تبدل على الحكم خلال الأعوام الأربعة الماضية أكثر من سلطة، ولم يستطع أىٌّ منها، رغم زيادة جرعة سخرية الانتقاد، أن يسدل الستار على هذا العرض الذى لا يزال يحظى بحماية شعبية من جمهور يزداد مع الزمن تشبثًا بالدفاع عن حريته فى ممارسة حريته.
على المسرح نتابع عددًا من الإسكتشات، هذا هو بناء المسرحية القائم على الرصد اللحظى وأيضًا على الإبحار فى الزمن القادم ليلقى بظلاله على الزمن الحالى، تجد فى المسرحية إعادة قراءة لأوبريت «عنبر العقلاء» فى فيلم إسماعيل ياسين «المليونير»، كما أن هناك استدعاء لفرقة غنائية ظهرت فى نهاية الخمسينيات واسمها «الدراويش»، وكانوا يأخذون التيمات الشعبية الموسيقية للأغانى الشهيرة ويعيدون تقديمها للجمهور.
إنه المسرح الفقير بإمكانياته والغنى فى نفس اللحظة بقدرته على التعبير والنفاذ للجمهور ومن مختلف الأعمار.
شاهدت هذا العرض قبل أيام فى معهد المسرح، فوجئت بأن أستاذة كبيرة فى المعهد لم تستطع أن تتحمل سوى دقائق، وبعدها تركت العرض وعينها تشع بالغضب وربما التوعد، هذه النظرة كانت وحدها كفيلة بأن تجيب عن سؤال يراودنى عن سر التردى الذى تعيشه المؤسسة الرسمية للفنون فى بلادنا، فهى لم تتحمل أى لمحة انتقاد للسلطة الحالية، اعتقدت أن عليها إثبات موقفها أمام الجميع فى الاحتجاج ومغادرة قاعة المسرح قبل أن يكتشف أحد وجودها ويحسبها عليها، رغم أنه لا يوجد بالتأكيد أى ربط بين مشاهدة العرض والموافقة على الرؤية السياسية المطروحة، ولكن أستاذة المسرح التى تنتمى لزمن وفكر الستينيات أرادت إبراء ساحتها أمام الجميع.
البعض يُصدر للرأى العالم أن الجميع يجب أن يؤجلوا أى انتقاد فى تلك اللحظة التى يعيشها الوطن حتى نعبر للشاطئ الآمن، وكأن غض الطرف عن الاحتقان يعنى أن كل شىء تحت السيطرة وعلى سنجة عشرة، المسرحية تؤدى دورها لتنفيس الغضب قبل الانفجار، العرض يكسر الخط الوهمى بينه والجمهور، و1980 وأنت طالع هم الذين ولدوا فى هذا العام وما بعده، أى أنهم جميعًا دون الخامسة والثلاثين، إنه الجيل النقى الذى حلم بالثورة وكانت دماؤه هى وقودها، كانت خشبة المسرح جزءًا لاستمرار التجربة، الفضاء المسرحى يبدو كأنه ورشة عمل لم تكتمل بعد هناك دائمًا «حتة» ناقصة، وبناء العرض اليومى قائم على ملء هذه «الحتة» ليولد فى اليوم التالى فراغ ناقص، الكل يمتلئ بالبهجة ويشع على الحضور بهجة، إنه عمل مسرحى أعاد الحميمية المفقودة للمسرح، فهو يتكئ على روح الارتجال وليس قانون الارتجال، لا أحد فوق النقد، يقود الفريق المخرج محمد جبر، الذى عليه أن يضع أسوارًا للإضافات التى يمارسها الأبطال على المسرح، حتى يظل داخل إطار الفكرة ولا يعبر أسوار الممكن دراميا وأيضًا سياسيا حتى لا يجد نفسه يدخل فى متاهة المستحيل.
يبدأ العرض بتلك الجملة الساخرة هل شباب ثورة 19 لا يزالون يطالبون بتحقيق أهداف ثورة 19؟ وأنت عزيزى القارئ تعرف أنهم لا يزالون مثل أحفادهم صناع ثورتى 25 و30!