إذا أردت تلخيص الأزمة التى نعيشها فى كلمة واحدة، فقل وأنت مطمئن: الفساد.. إنه مصيبة المصائب، فهو مقدمة الأزمات وعاقبتها، سببها ونتيجتها، والفساد ليس حكرًا على السلطة، لكنه حالة فردية قد يعيشها الجميع حكامًا ومحكومين.
صحيح أن فساد الحاكم والقوى والغنى والمشهور أشد بطشًا وتأثيرًا من فساد الضعيف، لكن يبقى الفساد هو الفساد، وهو حسب معاجم اللغة: خروج الشىء عن الاعتدال فى النفس والبدن، فالمفسدة عكس المصلحة، وتفاسد القوم يعنى تقاطعوا الأرحام، كما ينطبق معنى الفساد على أخذ المال ظلمًا، وقد وردت كلمة الفساد ومشتقاتها فى القرآن الكريم فى خمسين موضعًا، واتسع المعنى ليشمل الفساد العقائدى والسلوكى والأمنى والمالى، بالإضافة إلى بطش الحكام.
وفى معظم الآيات ارتبط مصطلح الفساد بكلمة الأرض، ولم يقتصر على الكفر أو فساد العلاقة مع الله، سبحانه وتعالى، لكن الفساد فى الأرض ورد فى نحو أربعين آية من الخمسين، حذرت من تهديد الحياة الآمنة وترويع الناس، وقطع الطريق، وكل أنواع الإيذاء والاعتداء وسفك الدماء، وإزهاق الأرواح، ونهب الأموال.
عظمة القرآن كدستور دنيوى تبدو فى تجاوز النص لمفهوم المعاصى الدينية وفساد العقيدة، رغم أنه اعتبر هذا النوع من الفساد هو أساس كل فساد، لكنه القرآن، أفاض فى التحذير من الفساد الأمنى والاجتماعى، والاقتصادى أيضًا، حيث نهى صراحة عن التخريب «وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد»، كما نهى.
عن الغش والسرقة (ما جئنا لنفسد فى الأرض وما كنا سارقين)، وشدد على الأمانة فى البيع، والصدق فى العقود، والالتزام بشروط المعاملات الاقتصادية من بيع وشراء وتأجير وكل أنواع المعاملات المالية (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا فى الأرض مفسدين).
واعتبر الخروج عن الأمانة طريقًا إلى زعزعة الروابط الاجتماعية وتفكك المجتمع، وتهديد الاستقرار، وذلك أسوأ صور الفساد فى الأرض. كما تناول القرآن الكريم الفساد الأخلاقى، وحذر من النميمة وخدش الأعراض وانتهاك الحرمات، ولم يترك القرآن حتى مفهوم حماية البيئة الذى يهتم به حديثًا الناشطون الأجانب لحماية الأرض من اختلال التوازن البيئى وارتباك الدورات الطبيعية لكل العناصر الأساسية فى الحياة.
ولم يترك القرآن أولئك المفسدين الذين يخدعون الآخرين ويخدعون أنفسهم، فيمارسون الفساد عملًا، ويبررونه قولًا، حيث يقدم اللصوص أنفسهم كمدافعين عن الفضيلة والشرف، ويبرر المعتدى أفعاله بأنها لحماية الناس وتأمينهم، وفى ذلك يقول رب العزة: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُون).
ويقول جل جلاله: (ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون).
وجعل الله من واجبات الصالح أن يواجه الفساد والمفسدين (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد فى الأرض).
وقد تضمن القرآن آيات كريمة تُظهر أن الله يكره الفساد والمفسدين (والله لا يحب الفساد)، (والله لا يحب المفسدين)، (إن الله لا يحب المفسدين)، ولذلك توعدهم بالخسران وسوء العاقبة، وقال سبحانه وتعالى: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) مؤكدًا على المؤمن التصدى لكل فاسد يمس الأساسيات الخمسة: النفس، المال، العرض، العقل، الدين.
تذكروا هذه الآيات وأنتم تستعدون للانتخابات البرلمانية المقبلة التى يتسابق إليها الآن الكثير من الفاسدين، الذين يتسترون وراء شعارات الخير والحق، ويقدمون الخدمات الموسمية لدوائر الناخبين، ليس اقتناعًا بالخير، ولكن لشراء الضمائر والأصوات، والعبور إلى مقاعد التشريع ومنافذ صناعة القرار، فلا تتهاونوا مع الفساد، ولا تتعانوا مع الفاسدين.. أعزكم الله.