المصرى اليوم
طارق الشناوى
كلمات ولكمات.. صلاح عبدالصبور والشهابى
قبل أيام احتفلنا بذكرى رحيل شاعرنا الكبير صلاح عبدالصبور الذى غادرنا منذ 35 عاما بينما إبداعه الأدبى حى يرزق، ولا يزال هو أحد أهم عناصر البنية الفكرية التحتية للوجدان المصرى والعربى.

صلاح راح ضحية كلمات تحمل اتهاما قاسيا من الأصدقاء بالتطبيع مع العدو الإسرائيلى، وبالصدفة وفى ذكرى يوم الرحيل كان لاعب الجودو المصرى إسلام الشهابى يرفض مصافحة اللاعب الإسرائيلى ساسون، البطل المصرى لاقى هزيمة ثقيلة فى حلبة الصراع بالضربات والشقلباظات واللكمات، كان نصيبه صفرا بينما الإسرائيلى حصل على 100 درجة، ما فعله اللاعب المصرى المهزوم أنه لم يلتزم بقواعد اللعبة وهى قبول المصافحة فى نهاية المباراة، اشتعلت السوشيال ميديا وأغلبها بالطبع يؤيد اللاعب المصرى متجاهلين هزيمته النكراء.

كم تمنيت أن نكسب المعركة وبعد ذلك يبقى سؤال المصافحة معلقا مثلا المرأة الإيرانية لا تصافح الرجال، لاعتقاد عند المتزمتين أنه محرم شرعا لو تصورنا جدلا أن لاعبة إيرانية كسبت ميدالية فى ريودى جانيرو، ورفضت مصافحة المسؤول فهل ستحجب عنها الجائزة، أتصور الأمر سيسير طبيعيا، والاتحاد الدولى لن يعتبرها مخالفة تستحق العقاب، طالما تسامح المسؤولون مع الاعتقاد الدينى، ولم يعترضوا على ارتداء الزى الإسلامى فى عدد من الألعاب التى تجرى على الشاطئ وتتطلب ارتداء مايوه، فالمنطق يقضى بالتسامح أيضا هذه المرة، ولكن دعونا ننظر للأمر من زاوية أبعد، هناك ولاشك إحساس لا يزال عميقا يرفض فتح الباب أمام إسرائيل، وهى جينات توارثناها من المستحيل تغييرها حتى لو شهدت الحياة السياسية صفقات، وعدد من الزيارات والمواءمات السياسية نتابعها بكثرة حاليا، ولكن الوجدان يرفض ولا يمكن لأحد أن يقترب من المشاعر.

شاعرنا الكبير صلاح عبدالصبور التقيته مرة واحدة فى مكتبه المطل على شاطئ النيل كرئيس للهيئة العامة للكتاب، كنت مثل غيرى مبهورا به كشاعر وكاتب كبير، لا أتذكر فى واقع الأمر من الأسئلة سوى أننى تناولت قصيدة النثر وهل يراها إبداعا أم أنها مجرد خروج عن القاعدة؟ أجابنى عندما أستمع للقصيدة ولا أفهمها أتهم نفسى بالغباء فأعيد قراءتها وإذا ظللت لا أفهمها لا يمكن أن أتهم مجددا نفسى بالغباء ولم يقل أكثر.

كان صلاح رقيقا حتى فى نقده، لقد مارس فى مرحلة ما مهنة الصحافة فى (روزاليوسف) التى أنتمى إليها، وهكذا وجدت بينى وبينه رابطا حميما، إنها مدرسة الحرية، وتذكرت كيف مات صلاح عبدالصبور المؤمن بالحرية، بين أصدقاء يزايدون على وطنيته، عندما اتهموه فى جلسة ودية حضرها فى عيد ميلاد ابنة الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى، بأنه يبيع بالرخيص، عندما وافق على تنفيذ قرار السادات بمشاركة إسرائيل لأول مرة فى المعرض الدولى للكتاب، والذى كان يقام فى منطقة الجزيرة فى تلك السنوات (دار الأوبرا المصرية حاليا)، وسط استياء من قطاع كبير من المثقفين، وانتظروا أن يستقيل صلاح عبدالصبور من منصبه احتجاجا، والحقيقة أنه حاول أن يمنع إقامة الجناح الإسرائيلى، وكان يعلم بالطبع الضغوط السياسية وأراد ألا يحرج السادات، فاستند إلى أن باب المشاركة قد انتهى، ولكن السادات أصرّ، ويومها وثّق المخرج التسجيلى الراحل حسام على مظاهرات الاحتجاج داخل المعرض فى فيلم رائع، لم تستطع الدولة أن توقف نيران الغضب ولم يتدخل صلاح عبدالصبور مثلا باستدعاء الشرطة لفض المظاهرة أو حتى لمنع تصوير الفيلم، وكان صلاح يعلم أن السادات من أجل أن يصل لاتفاقية كامب ديفيد ضحى بوزيرى خارجية كان لديهما بعض التحفظات، وأنه لن يتوقف، لا يمكن أن نقرأ الواقعة بعيدا عن سياقها التاريخى، وهو تواجد صوت فى الشارع المصرى كان يرى أن الصلح يحمل الخير وسينتشل مصر من تبديد قوتها الاقتصادية فى الحرب، وهكذا مثلا لم يعترض أغلب المصريين على تغيير السلام الوطنى الموجه أصلا ضد إسرائيل (والله زمان يا سلاحى) تلحين كمال الطويل والذى يتغنى بكلمات صلاح جاهين (يا حرب والله زمان)، ليصبح بكلمات يونس القاضى وتلحين سيد درويش (بلادى بلادى لك حبى وفؤادى) يتغنى فقط بحب الوطن ولا يضع أبدا يده على الزناد، كل شىء خضع لأكذوبة تم تصديرها بالرخاء القادم بعد الصلح، إلا أن هناك قسطا من المثقفين ظلّ على موقفه الرافض لإسرائيل، وهكذا انفجرت الكلمات الغاضبة من الأصدقاء والتى جرحت شاعرنا الرقيق، فلم يتحملها قلبه. لم يكن صلاح بحاجة لمنصب، لا أشك لحظة أن صلاح عبدالصبور لو كانت قد امتدت به الأيام لوقف ضد إسرائيل، بليغ حمدى مثلا كان مؤيدا للصلح، ولحّن عام 79 أغنية (ياعبد الله يا خويا سماح) لمحمد رشدى، التى يقول أحد مقاطعها (سماح وأهل السماح حلوين/ وتعالى نزرع البساتين)، ولكن بليغ عندما اشتد عليه مرض الكبد عام 92 وقالوا له علاجك هناك، قال لهم: أفضل الموت فى القاهرة عن الحياة فى تل أبيب، وأضاف وماذا أقول لشقيقى الشهيد صلاح الذى رحل وهو يدافع عن الأرض فى 73.

علينا أن نطل على موقف إسلام الشهابى من شباك الزمن، مصر منذ 48 لم تكن تشارك فى أى حدث ثقافى أو رياضى إذا تواجدت فيه إسرائيل، لأن هذا يعنى ضمنا الاعتراف بها، ولكن تغير الأمر بعد توقيع اتفاقية السلام، وصرنا لا ننسحب، وفى أكثر من مهرجان عالمى كنا نتنافس مع أفلام إسرائيلية، وهو ما حدث أيضا فى الرياضة، وبالطبع تمنيت مثل الملايين الفوز للاعب المصرى، أنا لست خبيرا فى تلك اللعبة ولا غيرها، ولكن ما قرأته يؤكد أن لاعبنا كان سيهزم لا محالة، لأن الإسرائيلى ترتيبه عالميا فى مكانة أفضل بكثير، ويصغره فى العمر بـ11 عاما، فلماذا شارك المصرى وهو مهزوم قبل أن تبدأ المباراة.

ولم يكتف بهذا القدر بل قدم للعالم صورة إسرائيلى فائز يمد يده بالمصافحة، بينما المصرى المهزوم يرفض، لو انقلب الموقف والمصرى الفائز يمد يده لمصافحة الإسرائيلى المهزوم الذى بدوره يرفض لتضاعف وقتها الإحساس بانتصارنا، أخشى أن يكون هذا هو إحساسهم فى إسرائيل.

الكلمات أصابت صلاح عبدالصبور فى مقتل والضربات واللكمات هزمت لاعبنا المصرى فى الحلبة، ولا أتصور أن عدم المصافحة بدد مشاعر الهزيمة القاسية!!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف