الأهرام
عبد المنعم سعيد
المسألة الإسرائيلية مرة أخرى
كتبت عن «المسألة الإسرائيلية» منذ أسابيع عندما قام وزير الخارجية سامح شكرى بزيارة إسرائيل. كانت الدنيا قد قامت، ولم تقعد، لحدوث الزيارة عقب حديث للرئيس عبد الفتاح السيسى فى أسيوط يدعو فيه إلى السلام وحل القضية الفلسطينية. فى البداية بدا الموضوع بسيطا، فمصر لديها معاهدة سلام مع إسرائيل، ولما كانت المنطقة قد انقلب عاليها واطيها كما يقال، وهناك محاولات لإعادة الاستقرار إليها مرة أخري، فلماذا لا تقوم مصر بمحاولة لكى توضع القضية المنسية، وليست المركزية، على مائدة التسويات المقبلة فى الشرق الأوسط. ولكن رد الفعل الذى جاء من «النخبة» المصرية جاء مدهشا، ومذكرا بكل ما كان فى القرن الماضى وكأن لا شيء جرى خلال العشر سنوات الماضية لا فى سوريا ولا فلسطين ولا العراق ولا اليمن ولا ليبيا ولا إيران ولا تركيا؛ كان العالم باختصار كما هو جميلا رائعا بنسمات معطرة لا يؤرقها إلى محاولة التطبيع الرسمية المصرية!.

فجأة عادت إسرائيل إلى الحوار المصرى العام، وبالتأكيد فإن هناك ألف طريقة للحضور الإسرائيلي، ولكنها حينما عادت فإنها كانت ضمن ذلك الخطاب الذى عرفناه وأدمناه: التطبيع والمقاطعة. ومنذ أيام قامت الدنيا أيضا ولم تقعد لأن الممثل الأستاذ خالد أبو النجا والممثلة السيدة بسمة شاركا فى مسلسل أمريكى كان طبيعيا أن يكون بعض العاملين فيه من اليهود. وكما هى العادة فى مثل هذه الأحوال اختلطت الأمور بين اليهود والإسرائيليين فمن ناحية فإن ذلك من الأمور الشائعة، ومن ناحية أخرى فإن الروابط بين الأمريكيين والإسرائيليين من الأمور المعتادة أيضا خاصة فى مجالى الفنون والمؤسسات الأكاديمية والعلمية. ولكن الأمر على الناحية المصرية صار تفتيشا فى السلوك والضمائر والعقود، ببساطة صار الأمر نوعا من محاكم التفتيش التى لا تنسى ولا تغفر ولا تعرف الحدود التى تغيرت، ويظهر تغيرها فى منطقتنا نارا ودما ودخانا وحرائق. ولا يحتاج الأمر كثيرا إلا نظرة على منطقة الهلال الخصيب، وأخرى على القرن الإفريقي، وثالثة فى سيناء، حتى تدفعنا دفعا إلى التفكير بشكل مختلف فى قضية استهلكت من عمر أجيال منا الكثير، وهناك منا من يريدون استهلاك جيل إضافي، بينما أصحاب القضية نفسها يواجهون المسألة الإسرائيلية بطرائق مختلفة، ولا يجدون مشكلة فى ثقب حدودنا وتدريب من يقتلون جنودنا.

هذه قصة على أى الأحوال ليست موضوعنا، ولكن الفصل الأول فى فهم المسألة الإسرائيلية فى الواقت الراهن من أجل تقرير الأمر تطبيعا أو مقاطعة تحتاج اقترابا ومتابعة للحالة التى وصلت لها إسرائيل فى هذه اللحظة من تاريخ المنطقة. فكما هو معلوم فإن إسرائيل مساحتها 20 ألف كيلومتر، وعدد سكانها ثمانية ملايين ونصف، نحو 75% منهم من اليهود و 21% من العرب الفلسطينيين وما تبقى أقليات متعددة أخري. ويبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى 35 ألف دولار واحتياطياتها بلغت فى العام الماضى قرابة 78 مليار دولار، وتقع الدولة فى المكانة 18 بين دول العالم فى تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة. وفى عام 2010 انضمت إسرائيل إلى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية التى تضم كبريات الدول الصناعية فى العالم. الأمر المهم هنا أن إسرائيل لم تعد واقعة بين الدول الصناعية الكبرى إلا بحقيقة تميزها فى عدد من المجالات المهمة التى تبدأ بأنها الدولة الثانية على مستوى العالم فى الشركات الوليدة العاملة فى مجال الإلكترونيات بعد الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنها تميزت بشدة فى عدد من المجالات الحيوية مثل توليد الطاقة الشمسية، والمحافظة على المياه، والطاقة الحرارية Geothermal. وتعد إسرائيل موطنا رئيسيا للبحوث والتطوير للشركات الإلكترونية مثل إنتل، وجوجل، ومايكروسوفت، وأى بى إم، وآبل، و إتش بي. والحقيقة فإنه لا يوجد كاتب أو مثقف أو مستخدم للكومبيوتر فى مصر إلا ويمارس التطبيع مع مكون أو أكثر من المكونات الإسرائيلية فى الجهاز المستخدم، وأن جزءا من ثمن الجهاز سوف يذهب ريعه إلى مؤسسة إسرائيلية من نوع أو آخر. مثل هذا الاستثمار فى البحوث والتطوير الإسرائيلى يقابله استثمارات إسرائيلية كبيرة فى البحوث والتطوير فى دول أخري، ولكن الميزان النهائى فى صالح إسرائيل بما مقداره 118 مليار دولار فى نهاية 2015.

هذا التطور العلمى الكبير عكس نفسه فى مجالات تطبيقية حتى باتت وكالة الفضاء الإسرائيلية فى المكانة التاسعة بين مثيلاتها فى دول العالم الأخرى حيث تقوم بتصنيع الأقمار الصناعية والصواريخ التى تحملها إلى الفضاء الخارجي. أما فى مجال المحافظة على المياه فإن إسرائيل لم تعرف فقط بطريقة الرى بالتنقيط، وإنما أيضا بالاستخدام الواسع لتحلية المياه حتى وصلت إلى 40% من المنازل فى عام 2015، بينما كانت 90% تستخدم الطاقة الشمسية فى تسخين المياه. كل ذلك ولم نقترب بعد من الصناعات العسكرية، ولكن ما يهمنا هنا أن الصراع مع إسرائيل أو السلام معها، التطبيع أو المقاطعة معها، لا يمكنها أن تستند إلى حقائق عقدين مضيا، وإنما على الحقائق الحالية لإسرائيل من ناحية، والمنطقة من ناحية أخري، والمصالح المصرية والعربية من ناحية ثالثة، والمصالح الفلسطينية من ناحية رابعة.

ما نحتاجه، ربما، نوع من التفكير الهادئ، والتعلم من أن العلاقات الدولية تقوم على شبكات من الصراع والمنافسة والتعاون، وتقييم مستمر للأوضاع بحيث نتجنب محاربة طواحين الهواء أو خوض حرب سبق خوضها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف