الأهرام
جابر عصفور
رؤى نقدية السمسار ــ 3
«منتصر فهمى عبد السلام» نموذج بشرى مثل تلك النماذج البشرية التى كتب عنها المرحوم محمد مندور واحدا من أهم كتبه. والنموذج البشرى هو شخصية أساسية فى الرواية، أو شخصية بالغة الدلالة، وقد يكون النموذج هو البطل الأساسى فى الرواية, مثل «محجوب عبد الدايم» فى رواية «القاهرة الجديدة» لنجيب محفوظ, أو يكون شخصية فرعية كاشفة مثل «جافروش» الشخصية المثيرة للانتباه فى رواية «البؤساء» لفيكتور هوجو. وبهذا المعنى فإن «منتصر فهمى عبد السلام» نموذج بشرى، ولكنه هو العمود الذى تدور حوله أحداث رواية «السمسار»، باعتبارها صفة منطبقة عليه أولا، وتكتمل بأمثاله الذين يدورون حوله بوصفهم شخصيات فرعية، تتراوح فى الأهمية حسب موقعها فى الرواية وليس الواقع. وقد ذكرنا الملامح الأساسية لهذه الشخصية، ولكن آن الأوان لأن نتحدث عن العناصر البنائية التى تربط بين هذه الشخصية وغيرها إما على مستوى التشابه أو على مستوى التضاد. أما على مستوى التشابه فنجد فيه الميل إلى النساء اللائى يدخلن مجال الجنس وينظرن إلى أجسادهن بوصفها سلعة أو لازمة من لوازم الأبهة والثروة والمكانة, كشخصيات الفنانات من عاشقات السلطة مثل «هند سالم»، و«نادين بركات»، و«سهير كامل»، ويدخل فى باب التشابه كذلك شخصيات من مثل «درويش غانم» ومسيو «روبرتو» سمسار الأوراق المالية الذى يتعلم منه «منتصر فهمى» أصول السمسرة فى بداية حياته، و«شوكت راغب» مدير فرع الجزائر فى الشركات التى تتبع جهاز المخابرات إلى آخر الشخصيات التى تتصف بصفات تنجذب إلى شخصية «منتصر فهمى» أو ينجذب إليها. أما المحور الخاص بالتضاد فيبدأ أيضا بالنساء، حيث نرى مستوى العلاقة بين «منتصر فهمى» وصديقة أخته «ليلى الكاشف» التى تنطوى على معانى البراءة والصفاء ومحبة العلم والإخلاص لقضاياه، ولعلها الحب الوحيد النقى فى حياته، زهرة بيضاء بالغة النقاء كان لابد أن تمحوها فى داخله أحلام الثروة وأطماع السلطة التى تفرض التخلى عن البراءة والنقاء وعن النزاهة واستبدالها بصفات الانتهازية والفساد ونوازع الشر التى لا تستريح لوجود نقيضها. وتستقر «ليلى» فى جامعة ﭽنيف بسويسرا للحصول على الدكتوراه، ويحرص أن يقابلها بعد زيارة موسكو، فى بداية الرواية، وكانت تحدثه عن حلمها فى الحصول على الدكتوراه، بينما كان يحدثها عن حلمه فى الثراء، وأن يصبح رجل أعمال كبيرا يمتلك يختا خاصا يجوب به البحار. ويمل من سماعها وهى تتحدث عن العلم، وأحلام المعرفة واكتشافها– مثلا- لشخصية ﭽون نينيه الذى كان يطلق على نفسه لقب «المواطن من ﭽنيف». وكان عاشقا لمصر والمصريين، وهو مثقف نابغة جاء إلى مصر أيام محمد على الذى عينه مشرفا على زراعة القطن فى الدلتا. ولما قامت الثورة العرابية كان مستشارا سياسيا لقيادتها، وشجعهم على خلع الخديوى وإعلان الجمهورية. فقد كان الرجل عاشقا للديموقراطية والحكم الدستورى. وعندما تخبر «ليلى» صديقها القديم «مونتى»- منتصر- عن مشروعها لترجمة رسائل هذا الثورى السويسرى، يبدو كأنه لم يستمع إليها، فقد كانت عيناه مسلطتين على لافتة بنك سويس فاينانس. وما إن تنتهى من كلامها الذى لم يسمعه، يسألها عن البنك الذى داعب أحلامه، وهو لا يزال مجرد سكرتير عام فى صندوق صادرات المنسوجات. وعندما تشكو له فى هذه الجلسة من المصاعب التى تواجهها فى استكمال أدواتها البحثية، وعن ذهولها من المكتبة الجامعية والأرشيف والوثائق المتاحة للطلاب، كانت كلماتها تسقط على وجه أملس صخرى، غير آبه بكل ما تقول. ولم يرقها صمته. أما هو فكان مغتاظا، يقول لنفسه: «تتحدث عن العلم والدراسات بشغف، كأنه العالم الأكمل الذى تحلق فيه، عالم يمقته: تسير فيه طويلا بين الصخور والأحجار؛ لتفوز فى النهاية بفكرة أو نظرية! أنت فى ﭽنيف يا ليلى، بلد البنوك والمال والثراء، ولا تفكرين سوى فى البحث والمعرفة. كبر عليه كبرياؤها العلمى، فقصد إلى إذلالها فى خياله، تصورها عارية تقف فى استكانة بين يديه، تستجدى ذكورته». وعندما يرتقى فى مدارج المخابرات، ويطمئن على مكانته فيها، تحت رئاسة اللواء «حافظ فرهود»، ويسهم فى الشركات التى أقامتها المخابرات فى أوربا، يمر على سويسرا، مشتاقا إلى ليلى التى كان لا يزال يحبها، ليشاركها أحزانها على هزيمة 1967 التى ما كانت مصر تستحقها، وتخبره «ليلى» أن رئيس القسم فى الكلية التى تدرس فيها قام بتشكيل فريق بحثى لدراسة أثر الهزيمة على خطط التنمية، وفرص استمرار خطة تنمية عبد الناصر التى عرقلتها الهزيمة. عندئذ يرهف حواسه، وتتجلى انتهازيته، فيطلب منها نسخة من هذا التقرير كاملة «بنبرة حزن زائفة». وعندما تسأله عن اهتمامه المفاجئ بالبحث، وهى التى كانت تظن أن عمله التجارى يأخذ وقته كله، يجيبها قائلا: «صحيح. ولكن الهزيمة محتاجة إلى تفسير عميق». فتعلق ليلى ببراءتها المعهودة: «يسعدنى اهتمامك بعملى».

وعندما تشعره أيامه بالضجر، بعد عمليات سمسرة كبرى ربح فيها الملايين، شعر بالحاجة إلى أن يرى «ليلى»، لعل رؤيتها تمحو بعض إحباطاته التى سببها خصومه من تجار الأسلحة، فيخبر ليلى بنيته زيارتها، ويحجز على أول طائرة إلى ﭽنيف. وهناك تقابله «ليلى» كما هى، وكما اعتاد أن يراها نموذجا للبساطة والأناقة والألفة «لاحظت بسهولة عدة تغيرات عليه. أنيق مثل نجوم السينما. أتى مستأجرا سيارة رولزرويس. يقيم فى جناح فخم فى فندق «دى برج» المطل على البحيرة. حجز مائدة منزوية فى أغلى مطعم لتناول العشاء... راقبته وهو يشعل السيجار والساقى يسكب النبيذ فى كأسين» فتسأله: «إيه العز ده كله يا مونتى». فيجيبها: «أنا بقيت غنى وعديت خلاص». فكرت فى سؤاله عن سبب هذا الثراء وعن السرعة التى كون بها ثروته، ولكنها آثرت الحفاظ على صفو الأمسية، وعلى إبقاء الخيط القديم الذى يصلها بمنتصر الذى لم يعد منتصر الذى كانت تعرفه وتحبه. وعندما أخرج من جيبه علبة أنيقة بها ساعة ذهبية من أغلى الماركات العالمية، طالبا منها أن تقبل هديته، اضطربت ولكنها سرعان ما استردت هدوءها واستجمعت شجاعتها، وقالت هامسة: «هديتك يا مونتى فخمة جدا، ووضعتنى فى حرج.. ولكن اعفينى من قبولها، لأنها لا تتماشى مع طباعى أو إمكانياتى لرد مثلها فاعذرنى». ولكى لا تصل الأمور إلى الانقطاع الكامل بينهما، تطلب منه أن يترك لها اختيار هدية تشعرها بالسعادة، وتكون ذكرى دائمة منه، وتدعوه إلى الغداء فى مطعم الجامعة، والتجول معها فى المدينة القديمة المملوءة بمراسم الفنانين التشكيليين، لتختار معه لوحة من لوحاتهم. ويضطر منتصر لقبول منطقها. ولكنه يدرك أنها تباعدت عنه، وأصبحت فى عالم مناقض تماما للعالم الذى أصبح طرفا فيه والمناقض تماما لعالم «ليلى» التى تختفى بعد ذلك من الرواية، حيث لم يعد لها فى عالم السمسار الذى صار من أصحاب المليارات مكانا بكل ما تنطوى عليه من قيم نبيلة وما ترمز إليه من براءة ونقاء. والحقيقة أن شخصية «ليلى الكاشف» ترتبط بمنتصر فهمى فى بعد آخر يرتبط بالفن، لكن فى الجانب السينمائى منه، فقد كان كلاهما معجبا بشخصية «همفرى بوجارد» فى فيلم كازابلانكا. فأما ليلى فكانت معجبة بوسامة «همفرى بوجارد» بطل الفيلم وشجاعته واختياره طريق الخير فى النهاية. وأما «منتصر» فكان مفتونا بسهولة الجمع بين توترات النفس الكامنة وراء قناع من الملامح الصلبة، فضلا عما كان يبدو عليه «همفرى بوجارد» فى الفيلم من حيث هو رجل شديد الثقة بنفسه، فى حركة دائمة ما بين النصر والهزيمة، ولكن الهدف محدد، وعنيد فى توجهه إلى النصر فى النهاية، مهما مر به من مصاعب. ولقد أطلت فى الجانب الخاص بـ ليلى/ منتصر لأنه تناقض أساسى. ولا يقل عنه أهمية التضاد مع اللواء «لبيب الديب» فى المخابرات، الرجل الذى ظل ينطوى على شعور بالاسترابة فى شخصية منتصر. وعندما آلت إليه رئاسة الجهاز أحال منتصر إلى التقاعد الذى لم ينقذه منه سوى اللواء حافظ فرهود الذى فتح له أبواب العمل فى البلدان النفطية التى أتاحت له ثروة هائلة. وكان جزاء اللواء «حافظ فرهود» مقابل إحسانه لمنتصر ورعايته له الغدر والخيانة. وهى صفة أساسية لم يتخلص منها «منتصر» منذ أن بدأ حياته العملية إلى أن نراه قبل النهاية يكرر الخيانة نفسها، ويسلم صديقه اللواء عبد العظيم الخولى إلى الرئيس فى صراع السلطة الذى لابد أن تكون له الغلبة فى أى نظام رئاسى قائم على الاستبداد الذى يتحالف دائما مع الفساد والمفسدين من السماسرة المتاجرين بكل شىء. ويبقى التناقض الداخلى فى شخصية «منتصر فهمى» نفسه، فهو شخصية تجمع بين متناقضات كثيرة، فهو إلى جانب حب المال والتضحية فى سبيله بكل من يقف فى طريقه، وانحيازه الدائم إلى رأس السلطة مهما كانت مفاسده (مبررا ذلك بانحيازه إلى الشرعية) رغم كل سوءات هذا الحاكم واعتدائه على الدستور والقانون بمساعدة أمثال «منتصر فهمى» من منافقى السلطان والمستفيدين منه، فإنه يتكشف أحيانا عن شخصية خيرة جذابة، فهو خفيف الظل، قادر على الإقناع، يتوقف عن كل المفاسد فى رمضان؛ متصورا أنه الشهر الذى يمكن أن يتطهر فيه من كل ذنوب العام، فيصوم جميع الأيام ويؤدى الصلوات الخمس، وينام بعد صلاة الفجر حتى منتصف النهار، وقبيل صلاة العصر يرتدى جلبابا من الحرير عليه عباءة من الموسيلين الموشاة بالقصب المذهب، وينتعل حذاءً طريًا من قماش أبيض فوق جورب ناصع البياض، ويخرج إلى مسجد الفاروق فى موكب مكون من ثلاث سيارات كُحلية اللون، ولا تفارق يده مسبحة من الياقوت لها فواصل وشرّابة من الفضة البلجيكية، كانت تخص الأميرة شويكار الزوجة الأولى للملك فؤاد. وهذا وصف منقول عن القصة، وهو نفسه يظهر التناقض ما بين الظاهر والباطن، وعشق الثروة وطلب مغفرة الله. وكان إلى جانب ذلك لا يقرب الخمر أو النساء فى شهر رمضان ويقول: «أحب أغسل جسدى كله فى هذا الشهر الكريم».

(وللتحليل بقية)
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف