صدق عملاق الأدب الراحل، أستاذنا نجيب محفوظ، إذ قال «إن آفة حارتنا النسيان»، ولكن.. يخطئ مَن ينسى أو يتجاهل أن لكل قاعدة شواذ، وأن بعض الأمور والوقائع تتحدَّى الزمن وتظل بوهجها الأول وباشتعالها الحى، صفحة مؤلمة ومعبرة أبلغ تعبير، تفشل كل محاولات التجميل أو التبرير المغرض فى التقليل من أثرها.
ينطبق هذا فى ظنّى تمامًا على جريمة إسرائيل، ذات السجل الحافل بالجرائم الوحشية، بقصف مدرسة بحر البقر بمحافظة الشرقية، وكانت حصيلتها مقتل عشرات الأطفال وإصابة عشرات آخرين.
أغرقتنا الجريمة يومها فى «بحر» من الحزن، مثلما حدث مع جرائم إسرائيلية أخرى، فى مصنع عمال أبو زعبل، والعدوان على مدن القناة، وفى كل بقعة طالتها أيدى الأعداء الآثمة، بواسطة أداتهم الإسرائيلية.
توهَّمت تل أبيب ورعاتها أن «المصافحة التاريخية!»، والتى كانت بمثابة خنجر طعن الكثيرين منا، أننا أمة بلا ذاكرة.
استكانت لما قاله البعض من «أن السلام قد حل وفرد جناحيه، بيننا وبينها..»، واشترطت إسرائيل خلو المناهج الدراسية من أى إشارة إلى جرائمها الوحشية البشعة التى اقترفتها فى حماية الفيتو الأمريكى، للحيلولة دون توقيع أى عقوبات عليها بموجب ميثاق الأمم المتحدة، بل ولا حتى مجرد توجيه لوم بسيط يجرح «مشاعرها الرقيقة!»، ولكن كما يقول المثل «لا يصح إلا الصحيح»، حيث ظل الوجدان الجمعى المصرى والعربى والإنسانى محتفظًا بصفحات تاريخه ناصعة شامخة تقول للعدو إنه مهما لجأ إلى الوحشية والترويع اللذين لا يمتلك غيرهما وسيلة للتعامل، فنحن نعرف كم أذقناه المر والويل مقابل اعتداءاته المستمرة فى حرب الاستنزاف المجيدة، التى أتمنى من كل قلبى أن يدرسها الطلبة حتى يعرفوا مغزى أحد شعارات ثورتَى يناير ويونيو «ارفع راسك فوق إنت مصرى».
نعم اقترفت إسرائيل واحدة من جرائمها الخسيسة بقتل وجرح أطفال بحر البقر، لكن ذلك عمَّق شعورنا بخيبتها على المستوى الإنسانى، ووحَّدنا خلف قيادة آمنت معنا بأن «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة».
وعندما أيقنت تل أبيب وراعيتها الأساسية أننا لن نرضخ وأن أطفال بحر البقر وعمال أبو زعبل وكل شهدائنا من القوات المسلحة والمدنيين، هم وقود معركتنا مع العدو، لتحرير أراضينا، استغاثت إسرائيل بأصدقائها لوقف حرب الاستنزاف، التى قرأت وأنا فى الخارج، فى أوائل التسعينيات، وصف أحد كبار رجال المخابرات الإسرائيلية لها بأنها «أطول وأشرس وأوجع حرب خاضتها إسرائيل ضد العرب!».
لقد أراد لنا الأعداء الامتثال إلى مخططهم، بأن نمشى بجوار الحائط وأن نستسلم لـ«قدرنا»، بقبول إسرائيل «زعيمة» للمنطقة، ولا راد لنزواتها.. غير أن بقاء صفحات العدوان مشتعلة تؤكّد لكل معتدٍ أو طامع أن مصر لا تنسى أبناءها، وأنها تميِّز بين العدو وبين الصديق، مهما طال الزمن.
ودليلى، ما يشهده العالم أجمع بأن أطفال بحر البقر فى القلب، بعد ٤٥ عامًا، ما زالوا بنفس عنفوان يوم الثامن من أبريل عام ١٩٧٠.