ناصر عراق
قصة شبه حقيقية عن صفقة الطائرات الرئاسية!
بأدب شديد استأذن الوزير المسؤول في مقابلة السيد الرئيس وألح في طلب المقابلة فورًا. كان الوزير يتأمل بامتعاض الأثاث والتصميم الداخلي للطائرة الرئاسية التي تقلهم في مهمة عمل إلى أوروبا، حيث أصر فخامة الرئيس على عمل أي شيء من أجل عودة السياحة إلى معدلاتها الطبيعية حتى يتجاوز الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بالبلاد. بعد دقائق سمحت سكرتارية الرئيس للسيد الوزير بدخول الجناح الرئاسي بالطائرة.
بدا الرئيس في جناحه الخاص بكامل أناقته. يجلس بهدوء على مقعده وعلى وجهه ابتسامة أمل في نجاح مهمته المقدسة من أجل الشعب، بينما جلس أمامه السيد رئيس الوزراء وبين يديه بعض الأوراق، وقد وضعت منضدة صغيرة بينهما رصت فوقها فناجين الشاي والقهوة وصحون الفواكه والمكسرات. استقبل الرئيس الوزير ببسمة مشجعة، لكن رئيس الوزراء رمقه بنظرة يختلط فيها التعجب بالانزعاج، فما الضرورة الملحة التي جعلته يطلب مقابلة الرئيس فورًا، ويقتحم علينا الجناح الرئاسي؟ ألن تهبط الطائرة بعد ساعتين فقط في مطار العاصمة الأوروبية؟ لم هذا الاستعجال إذن؟
استجمع الوزير شجاعته، ومال بجذعه نحو الرئيس وهو يضع راحته اليمنى فوق اليسرى إمعانا في التأدب، وقال بقلب مضطرب لكنه مترع بالتصميم والثقة:
- أعتقد يا أفندم أن الوقت قد حان للاستغناء عن هذه الطائرة الرئاسية المتهالكة التي لا تليق بمقامكم الرفيع؟
ألقى الرئيس نظرة عفوية سريعة على أثاث الطائرة وتصميمها العام، وتساءل مندهشا وهو يرنو إلى رئيس الوزراء:
- مالها الطائرة؟ إنها جيدة وتؤدي الغرض.
لم يستسلم الوزير، وامتص اعتراض الرئيس بذكاء وهمس:
- يا أفندم... إن صناعة الطائرات الفخمة التي تليق بالرؤساء قد تطورت جدا في العالم كله، وفي فرنسا تحديدًا، ولا يصح لجنابك أن تستقل هذه الطائرة الأمريكية القديمة التي تعود إلى زمن رؤساء مخلوعين ومعزولين ومؤقتين!
ابتسم باطن رئيس الوزراء وهمس لنفسه (يا ابن الشياطين... فكرة ذكية جدا). في حين سكت الرئيس مليا، قبل أن يسأل وقد أعجبته الفكرة:
- وكم سعر الطائرة الحديثة؟
انتشى الوزير فورًا، إذ أيقن أنه خطا خطوة كبرى نحو هدفه:
- بطبيعة الحال لن نشتري طائرة واحدة فقط يا أفندم، إذ يجب أن يكون في حوزتكم اثتنان على الأقل، وقد عرفت أن ثمنهما لن يتجاوز 150 مليون يورو فقط.
أشاح الرئيس بوجهه معترضا، وصاح:
- لا.. لا... لا... المبلغ الكبير جدا.
هنا تدخل رئيس الوزراء بحصافته المعهودة وقدرته على الإقناع:
- لا كبير ولا حاجة يا أفندم... المبلغ بسيط ويمكن تدبيره -سيادتك- بسهولة.
لم يعلق الرئيس ومد يده وتناول فنجان شاي وهو يعاود إلقاء نظرات عامة على أثاث الطائرة وتصميمها الداخلي، فتعثر الوزير في توتره، ورمقه رئيس الوزراء بطرف خفي، ثم افتعل أنه منشغل بالأوراق التي بين يديه، وبعد أن تناول الرئيس رشفة قال بقلق واضح:
- كيف سيتستقبل الناس هذا الخبر وقد أعلنت لهم أننا يجب أن نتقشف، لذا أخذنا وسنأخذ قرارات قاسية بشأن إصلاح الوضع الاقتصادي، وبالتالي ارتفعت أسعار السلع والخدمات... كيف سنخبرهم بذلك؟
ابتسم رئيس الوزراء وتشجع، وقال بصوت خفيض:
- يا أفندم... لن يعرف أحد بالأمر، ولن نعلن عن الصفقة على الإطلاق.. إنها أسرار رئاسية... أمن قومي، وها هو قرض صندوق النقد الدولي في طريقه إلينا، نستطيع ساعتها أن ندبر ثمن الطائرتين، فضلا عن أن رفع الدعم عن الكهرباء والبنزين والكثير من السلع سيوفر لنا مليارات الجنيهات... لا تقلق يا أفندم... الأموال متوافرة والحمد لله، والبركة في ذكاء سيادتك وشجاعتك في اتخاذ القرارات الصائبة.
فقفز الوزير فوق لسان رئيس الوزراء معززا:
- يا أفندم... الشعب يحبك جدا... ويثق بكل قراراتك... ألم تقف بجواره في محنته مع الجماعة المشبوهة؟ ألا تصل الليل بالنهار من أجل راحة هذا الشعب؟ إذن من حق مقامكم العالي أن تنالوا قسطا من الراحة والهدوء في أسفاركم الكثيرة من أجل الوطن.
تفكر الرئيس للحظات، وتساءل:
- لكن... قد يتسرب الخبر عن طريق الصحافة الأجنبية، فحرية الرأي والشفافية عندهم بلا حدود كما تعرفان!.
فعقب رئيس الوزراء على الفور:
- لا يهمنا شيء يا أفندم، فليقولوا ما يقولون، وآنذاك سنعلن أنها مؤامرة على الوطن تقف وراءها الجماعة والعملاء من جماعات الشباب المخبول مدعي الثورية وبعض الدول الأوروبية التي لا تريد الخير لنا!
ضحك الرئيس بصوت عال للمرة الأولى وهتف بوجه مشرق:
- إذن فلتتفقوا مع الشركة الفرنسية على شراء أربع طائرات وليس اثنتين... حتى يتمتع السيد رئيس الوزراء وأعضاء حكومته بركوب الطائرة الفخمة!
فهلل رئيس الوزراء والوزير شاكرين، ثم استأذن الرجلان في الانصراف ليتركا السيد الرئيس ليبدل ملابسه قبل هبوط الطائرة، ولما تركا الجناح الرئاسي همس رئيس الوزراء في أذن الوزير قائلا:
- برافو عليك... ضمنت بقاءك في الوزارة إلى ما لا نهاية يا ابن الذين!