التحرير
علاء خالد
اعترافات الأب «متَّى المسكين» 2-2
أستكمل "اعترافات الأب متى المسكين"، ولكن قبل سرد اعترافاته المجازية، أود أن أشير لمسيرته داخل الكنيسة المصرية، فلم يكن الأب متى المسكين شخصا مرغوبا فيه، لا هو ولا تلامذته، وقد حورب وتم الوقوف ضده من بعض من يملكون مفاتيح السلطة فى الكنيسة، وتكررت محاولة محاصرة طريقته فى التفكير. فى هذه الحالة لم تعد الكنسية مجالا روحيا تتبارى فيه الأفكار وتتحاور، بل مجال سلطوي يمارس المنع، مثل الدولة تماما، ليحافظ على نوع من التدين الوظيفى الآمن، بل ويحاول أن يحجب، عن شعبه، الأفكار الأخرى التى يعتقد بمخالفتها له ويخشى منها.

أعتقد أنها مشكلة مصرية بامتياز لا تخص ديانة بعينها، ولكنها تخص طريقة تفكير تفاعلت مع ديانة وأنبتت هذا الجمود أو الأحادية فى التفكير. إن النخبة التى بيدها الأمر غالبا ما تكون مُحافظة ووظيفية، تقوم بعملها بلا روح ولا إبداع، فى مجال يحتاج للإبداع، وتفضل عدم المغامرة واللجوء لنصوص واضحة لا تقبل اللبس، ولا تغامر بالتأويل.

لقد قابلت بنفسى فى رحلة أخيرة للصعيد مجموعة من القسس والرهبان فى عدة أديرة، وحدثت حوارات معهم. كنت أستغرب، فى بعضهم، تقلدهم لهذه المناصب الحساسة. وأسال أحدهم من أوكلك بهذا المنصب؟ يقول رئيس الدير. كأن رئيس الدير هذا لا يمكن أن يخطئ. كنت أشعر أننا فى مصلحة حكومية كبيرة يتم فيها الترقى بالواسطة وبدرجة القرب من رئيس الدير وليس بالكفاءة والعلم والشفافية والإبداع. بالتأكيد كان هناك آخرون أكثر شفافية وارتباطا بهذه العزلة الاختيارية التى يعيشون ويضحون بحياتهم من أجلها ويخلصون لها، وهؤلاء استمتعت بالحديث معهم وبرقيِّهم الإنساني والفكري.

إذا كانت فكرة إصلاح الأزهر قائمة فبالموازة لا بد من إصلاح الكنيسة، فالكنسية المصرية لم تخرج للحياة العامة إلا أخيرا، فى السنوات القليلة الماضية، كفكر وممارسة، من قبل كانت تقف خلف ستار الدفاع عن حقوق الأقباط ومواجهة الظروف غير الإنسانية وغير العادلة التى يعانون منها، ولها كل الحق فى هذا. ولكن ربما هذا الدور أجَّل فكرة التطوير، وساعد على الجمود، بل وأجَّل معه الاستفادة من نوع من الفكر ربما ينتظره الكثيرون، وسيضيف للكثيرين من المتخصصين والعامة، وللثقافة المصرية بشكل عام وليس للمسيحيين فقط؛ كفكر الآب متى المسكين.

إلى الجزء الثانى والأخير من هذه "الاعترافات" الحارة والبصيرة لهذا الآب المسكين:

"هناك الفكر الكلى المطلق أو الوعى الكامل يتدرج إلى الوعى غير المطلق المرتبط بالعقل فيتنزل كلاما، ولكن قبل الكلام (هناك) وعى خارج عن الكلام، وأكبر منه، ولكن لا يخرج عنه".

"وراء النص القرآني هناك الروح القرآنية التى كتبت القرآن، كيف أتبين هذا؟ محمد عبده والأفغانى خرجا عن النص وشرحا وكان شرحهما مقبولا وتأثيرهما قويا على المسلمين، ولكن هذا انتهى يوم قفل باب الاجتهاد، وهذه مأخوذة على المسلمين، إذ كيف يُقفل باب الاجتهاد، والاجتهاد مرتبط بالله، وليس بالقرآن فقط، الاجتهاد هبة، رجل موهوب فكيف أقول له لا تجتهد، وهو أخذ من الله فرمانا أن يجتهد، إن غلق باب الاجتهاد يكون حين يغلق الله باب الإلهام".

"المسيحية حين انقسمت إلى كاثوليكية وبروتستانتية وأرثوذكسية تركت الوعى العالى ونزلت إلى الوعى العقلى، فحين يرتفع المسلم في باب الاجتهاد ويتلامس مع الروح، سوف يتلامس معي (كمسيحي) بلا شك، ولكن حين تنزل على الأصول فقط، سيكون لك بيت ولى بيت، لاتزورنى ولا أزورك".

"أخذنا الوعى الكلى من الله كهبة، ولكن تهنا بسبب خروج آدم من وجه الله وتعسفه وتعرُّجه فى العالم، فضاع منه الوعى الكلى وعاش بالوعى الجزئى، ومن حين لآخر، على يد هذا النبي أو ذاك في العهد القديم، إلى أن جاء داوود وسليمان الحكيم اللذان انطلقا من الوعى الروحى المحدود فى العقل إلى الوعى الكلى، وأعطانا لمحة، هذا هو ميراث البشرية. مبارك هو الإنسان الذى يستطيع أن ينفذ من الوعى المحدود المرتبط بالعقل الذى يتربع على التاريخ والزمن والقياس، ينفذ من الباب الموارب إلى الوعى الإلهى، هذا يكون الإنسان الإلهى الذى يتقرب إلى الله ويعبده ويعرفه بشكل صحيح".

"عقلي الباطن صديق، وهو مايسمونه بالجوانية، فإذا تكلمت فى العلم آتى لك بجديد بسبب أننى أنتقل بسهولة من العقل المحدود إلى ما فوق".

"الله مُدرك كامل، يُدْرَك ولكن ليس كما ينبغى".

"كل عالِم وكل مشتغل بالعلم يصل إلى العلم لو مرَّن حواسه الروحية، وكل إنسان فيه روح ووعى مطلق ولكنه مرتبط بالعقل، فلو مرَّن العالم حواسه الروحية، لا بد أن ينطلق، أنا أقول ذلك وأنا حزين، أنا كنت إنسانا ضعيفا ولم يكن لدى وعى، أنا رجل عملى، صيدلى، أدواتى هى الموازين وأنابيب الاختبار ومراقبة الألوان، ولكنى حين تقربت إلى الله كراهب، وأخلصت، انفتح لى العلم شيئا فشيئا، هل هذا حِذق منى؟ أبدا، هل هذه أيديولوجية؟ لا".

"من الأدب الدينى أن لا نوقع الرموز على الله إلا إذا كانت من واقع الله الرحمن الرحيم، ولا أخترع كلمات، فليس مصرحا لى أن أعطى رموزا للمسيح إلا إذا كانت من صميم الصفة الطبيعية فيه".
"الرمز مرتبط بالعالم الجزئى (البشرى)، ولكن بمفهوم المطلق ليس رمزا".

"رؤية الله لا يمكن أبدا أن يحصرها العقل، ولا يصفها، ولا اللغة تستطيع أن توقعها فى معان، ولكن هل تمت؟ نعم. كيف؟ لا يمكن التعبير عن ذلك. رؤية المطلقات غريبة عن العقل والمنطق، ورؤية الله موهبة عظمى للوعى الكامل للإنسان خصوصا عندما يتدرج من حق إلى حق حتى يستأمن على أن يواجه الرؤية".

هنا ينبهر العقل ويرتد محسورًا، وحين تسأل متصوفًا ماذا رأيت؟، يقول رأيت بهجة. صِفْ. لا يمكن. لماذا؟ لأنه أراد أن يسقطها على المحدود، وهذا مستحيل، ولكن أنت سوف ترى الله حينما تكون فوق، وتحسه وتعبده. ولكن كيف؟ لا يمكن التعبير. ونحن الآن عندما نعبد الله نحاول أن ندخله فى صور.

"المسيح عندما حلَّ فى الناسوت، الكل حلَّ فى الجزء، ولكن الجزء لم يعد جزءا، الكل انفرش على الجزء، والجزء انفتح على الكل، فأصبح المحدود غير محدود، وأصبح اللا محدود فى صورة المحدود، كالحلاج مثلا حين قال أنا المسيح وصلبوه، فالذى حدث أنه شعر بالكل حلَّ فيه، فغُشَّ العقل، وظن أنه أصبح كلا، وفى المسيح فإن الكل فعلا حلَّ فى الجزء فاستجاب الجزء وانفرد على الكل، فلم يعد جزءا. الشيئية هنا احتملت الحلول، فلم تعد شيئية".

"عندما نتناول لقمة صغيرة ونقول نحن نتناول المسيح، الجسد هنا رمز واضح وأصبح قطعا، ومع ذلك فإن من يتناول القطعة الصغيرة يكون كأنما أخذ المسيح بداخله، هنا تنزُّه خالص عن المادة شكلا، ولكن الجزء انفرش وأصبح كلا إلى درجة أن المسيح فىَّ (...) هنا انتقال إلى شىء إلهى، لذلك أقول إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذى أُعطى له أن يحول الزمن إلى خلود، والشىء إلى المطلق".

"الله سمح أن نسرق صفاته ونتكبَّر بها، ولكن لايوجد إنسان عالم بذاته وقادر بذاته".

"من نِعَم الله على الإنسان سعة الخيال وامتداده حتى إلى مافوق حدود العالم المادى. فالفكر البشرى يستطيع أن يحيط بكل ما على الأرض ويمتد ليتصور ما فى السماء. وقد وهبنا الله هذا الخيال الحى لنتصور به حوادث الماضى لنحيا فيها ونشترك فى بركاتها ونحتاط لأخطائها، فالخيال هو الرباط الذى يربط حقائق الماضى بوقائع الحاضر بأماني المستقبل".

"لتكن الصلاة سندا لك فى كل أمور حياتك، صل بعمق وفهم وعاطفة، وعوِّد نفسك على ما هو ضد نفسك!".

"كلمة الله مجال حى يلتقى فيه الإنسان مع خالقه سرًا وفى هدوء، لذلك فبقدر ما نقترب من الكلمة نقترب من الله، وبقدر ما نعيش فيها نعيش معه".

"الإنسان الذى يمارس موته اليومى عن العالم، ومرارة الموت فى حلقه، وهو يتألم ويُضرب ويُهان (....) فهو يتذوق الموت راضيا لكى يبلغ إلى ذوْق سر القيامة من بين الأموات. من أجل هذا نلاحظ أن كل الذين واجهوا الاضطهاد الشديد هنا، كانت نفوسهم مرتفعة بسر القيامة".

مراجع المقال

كتاب "أبونا القمص متى المسكين"، الناشر دير الأنبا مقار. ويضم الكتاب سيرة حياته والتى كتبها عام 1978 وطلب عدم نشرها فى حياته، بالإضافة لشهادات المعاصرين له والحوار الشهير الذى دار بينه وبين الدكتور جابر عصفور والدكتورة هدى وصفى والدكتور نصر حامد أبو زيد الذى عام 1991، ونشر وقتها فى مجلة "ألف"، ثم أعيد نشره عام 2006 بمناسبة وفاته.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف