ثمة أغنيات تستثير وجداني. فيغيم الدمع في عيني لملائكية صوت فيروز وهي تغني لشط الاسكندرية. وأغنية محمد قنديل عن عشق العين لأهل الاسكندرية. وهتاف علي الحجار: مدد يا مرسي.. ألحق لي كرسي.. أغنيات تحرك مشاعري. تعيدني إلي البحر والشاطئ والناس والجوامع وحلقات الذكر والجلوات وسوق العيد وزحام شارع الميدان ورحلات السمان والبلانسات والأمطار وتصريف المياه في جوانب الشوارع والفريسكا والذرة المشوي وصيد العصاري والجرافة والطراحة والسنارة.
إذا كان المكان يغيب برحيلنا عنه. فإننا نستعيده بالحنين. أتأمل الأمطار - من وراء زجاج النافذة - وهي تسقط علي القاهرة. ينقلني الحنين إلي الاسكندرية. استعيد مشهد الأمطار المتساقطة علي شوارع المدينة. الأغنية التي كنا نرددها في سني الطفولة: يا مطرة رخي رخي.. علي قرعة بنت اختي. للشتاء في الاسكندرية. ولأوقات المطر بخاصة. طبيعة مغايرة.
الأمطار تغسل الاسكندرية أشهر الشتاء. ما بين أولي النوات وآخرها. ¢نيولوك¢ تعده لاستقبال الصيف. ولاستقبال زوارها بخاصة.
في الشتاء وربما منذ الخريف. تقتصر الاسكندرية علي أبنائها. يعيدون التعرف إلي الأماكن التي كان يخنقها الزحام. لم تمثل الحياة علي الشاطئ - أشهر الصيف - إغراء من أي نوع. أكتفي بالجلوس تحت المظلة. والتطلع إلي الأفق.
الاسكندرية: البحر والبشر والأسواق والشوارع والعادات والتقاليد. نبض الكثير من اللوحات لفنانين مصريين وعالميين. هي كذلك نبض الكثير من الأعمال الروائية والقصصية وقصائد الشعراء لمبدعين من أبنائها. ومن الوافدين إليها. فرض المكان السكندري نفسه. بطلا. وسيدا. ومسيطرا. أذكر من الأدباء الأجانب الذين عاشوا في الاسكندرية. وحققوا شهرة عالمية: لورنس داريل الايرلندي. واونجريتي الايطالي. وأ.إم. فورستر. وكفافيس اليوناني. وفشتر السويسري. وهنري تويل الفرنسي. وغيرهم.
الاسكندرية ليست مجرد مدينة ساحلية. ليست مجرد بحر وشاطئ وميناء. إنها حياة متفردة لا تماثلها مدينة أخري تطل علي البحر. ولها شواطئها وميناؤها. أبواب مفتوحة علي البحر. أنت تجد التفرد في عبق الروحانية. وفي احتضان البحر للمدينة بما يشكل منها حدوة حصان أو شبه جزيرة. وفي المعتقدات والعادات والسلوكيات التي تسم مظاهر الحياة بالمغايرة والاختلاف.
روايتي ¢الشاطئ الآخر¢ تعرض للفترة المفصلية التي تخلت فيها الاسكندرية عن هويتها الكوزموباليتينية. استردت - بعودة آلاف الأجانب إلي البلاد التي قدموا منها - هويتها الوطنية. أدركت الأم اليونانية أن تصور انتمائها المصري هو تصور غير صحيح. وأن العودة إلي وطنها الحقيقي هو ما ينبغي أن تفعله. أقدم علي التصرف نفسه عشرات الألوف من أبناء الجاليات الأوروبية. وجدوا في تطورات الأحداث ما يحض علي فعل المغادرة. لم يعد في المدينة - إلا نادرا - شخصيات مثل جوستين وكليا وبلثازار وميليسا. غابت الاسكندرية الكوزموباليتينية. حلت محلها. أو عادت. الاسكندرية الوطنية. قوامها الصيادون والبحارة وعمال الميناء وأبناء الطبقة الوسطي. وغيرهم.
فرضت العربية نفسها لغة وحيدة أو تكاد. في الرسائل والمخاطبات العادية. ووجدت اللافتات المكتوبة بالعربية موضعا بين اللافتات المكتوبة بالفرنسية والانجليزية.