أحمد بان
هل كانت رابعة حتمية تاريخية؟
بعيدا عن الأسئلة الخاطئة التي تتردد بشأن اعتصام رابعة العدوية، أو التغزل فيما فعله ويفعله أردوغان، أو النعي على الجماعة أنها لم تمتلك هذه الحنكة في مواجهة الدولة العميقة، وتعاملت بسذاجة وطيبة، أو أن السلاح لم يكن كافيا لمواجهة الموقف وقد ادعت الدولة وجود سلاح رغم عدم وجوده بوفرة تكافئ الموقف أو غيرها من الأباطيل التى تقتاتها الجماعة وأعضاؤها، كمخدر جديد لأعصابهم بعد أن زال أثر الجموع والحشود وأكاذيب إعلامها.
يبرز سؤال مهم هل كان لدى الجماعة سيناريو بديل للاعتصام فى أهم ميادين مصر ومحاولة جعله بؤرة تكبر مع الوقت وتستعصي على الدولة فتتفاوض فى النهاية معهم وترضخ لمطالبهم،
الإجابة نعم.. كان لدى الجماعة العديد من الفرص بعضها سبق الاعتصام وما أنتجه من وقائع ومتغيرات، وبعضها تلى الاعتصام وكان يسبق فضه بتلك الطريقة.
كانت الجماعة حسمت أمرها بعد تردد واشتركت فى موجة يناير يوم 29 يناير 2011 بعدما ترددت كثيرا فى الانضمام للثوار، وأدركت أن الموجات الأولى كسرت الشرطة وأصبح الطريق مفتوحا لأحلامها، قبلها الثوار بينهم ولا يغير من الأمر شيئا، انخراط بعض شباب الجماعة فى الثورة منذ البداية إخلاصا لمعتقدهم الشخصي وخروجا على طاعة الجماعة، لذا كان جزاء سنمار لهم على يد مرسي بفصلهم من الجماعة، فقط لأنهم بيضوا وجهها وجعلوها تصدع دون خجل بأنها شاركت فى الثورة منذ البداية، ومع ذلك لنتجاوز تلك المحطة اتسعت الصدور مع الميادين للجماعة إلى جانب الثوار، حتى بدت أول خدعة وهى تنحي مبارك للمجلس العسكري، فهل بقى الإخوان فى الميدان أم رددوا “الشرعية للبرلمان وليست للميدان”، ولم يكن هناك وقتها سوى شرعية الحلم بإزاحة الماضي الكئيب عبر الثورة التى خانتها الجماعة متصورة أن الحكم ثمرة دنا قطافها، كان بإمكانها أن تقرأ الواقع جيدا وتستمع لنصائح الثوار بالبقاء في الميدان حتى إزاحة الماضي بالكامل، عبر تحالف سياسي واسع تكون فيه هي الجزء الأصغر، وبودي لو تجردت تماما من أي مطمع مكتفية بأن ترى مصر مختلفة أكثر حرية ورفاة، وتتفرغ لما حاولت أن تقدم نفسها من خلاله لعقود كحركة أحياء إسلامى، تهتم بالتزكية والتربية فى واقع يتيح لها ولغيرها من الجادين فى بناء الوطن العمل فى بيئة صحية.
كان بإمكانها أن تكون في قلب الثورة للنهاية، ترعى جبهة وطنية واسعة كحركة ضغط في الشارع تعبئ الشارع انتصارا للثورة ولأهدافها، لكنها تعاملت مع الثورة ليس باعتبارها فعلا لتحرير الناس من الفقر والقهر والاستبداد، بل فعلا لتحريك الموقف باتجاه طموحات الخلافة ومشروعها، ومن ثم غلبت منطق الصفقات وقرأت الفاتحة على روح الثورة مع المجلس العسكري، الذي استدرجها إلى مستنقع الحكم لعام لم يبخل فيه بكل التعويق والتدبير الماكر، الذي تعلمته الدولة العميقة قبل قرون فى أقدم دولة مركزية في العالم.
كان بإمكانها أن تجعل شعارها “مشاركة لامغالبة” شعارا حقيقيا، لامجرد قناع دهسته بأقدامها عند أول فرصة حيث انطلقت في مغالبة لاتعرف الرحمة.
كان بإمكانها أن تقدم دستورا حقيقيا تشارك في كتابته مع اليمين الديني بنسبة 20 % كما هو الوزن الحقيقي لها، وثيقة للتوافق وبناء المستقبل على أسس صحيحة وعادلة، لكنها أبت إلا أن تكتبه باليد والأقدام ترجمة لمشروعها الأممي الغائم.
كان بإمكان مرسي أن يأتي برئيس وزراء مسيس وحكومة تكنوقراط لافتة، لكنه أبى ألا أن يأتي بموظفين يخلصون لإرادة مكتب الإرشاد.
كان بإمكان مرسي أن يعلن حربا على الفساد من أول يوم ولا يهادن ولا يمزج بين خيارات الثورة التي لم يعتدها، وخيارات الإصلاح التي تربى عليها وأسكرت عقله عن الاختيار الصحيح، ولطالما ناشدناه وقتها بالتخلي عن وهم التدرج فى مكافحة الفساد أو الفوضى، لكنه أبى فتمدد الفساد والفوضى فى ساحته حتى أحاط به بنعومة وخنقه بكل يسر.
كان بإمكان مرسي أن يحتمي بالشعب وليس بالجماعة ويضعه في قلب الحقائق، لكن ثقته كانت بالجماعة وليس بالشعب، فاختار الاحتماء بالجماعة فغرق فى محيط الغضب الشعبي هو والجماعة.
كان بإمكان مرسي أن يعلن تخليه عن الحكم ويجري انتخابات رئاسية مبكرة، لكن عسيلة الحكم أسكرت فؤاده، فردد فى غضب” الشرعية ثمنها حياتي”، فانتهت حياته مع حياة الجماعة.
كان بإمكان مرسي أن يردد ما ردده أربكان عندما انقلب الجيش عليه فقال سنحافظ على تركيا وأمرا أنصاره بالعودة لمنازلهم وكانوا أكثر من خمسة ملايين، لكنه لم يفعل.
كان بإمكان مرسي أن يستمع للعقلاء من داخل وخارج الجماعة بأن المعركة انتهت ويحقن دماء الناس، لكن التيار القطبي وجدها فرصة لصناعة مظلومية جديدة تسوق الجماعة في الوعي العام من جديد، وتقطع طريق محاسبة تلك القيادات على ما جنوه بحق الدين والوطن.
كان بإمكان مرسي أن يتفاوض على العودة كحركة ضغط تعمل فى المجتمع وتستقوى به، وترتقي بمستواه معرفيا وخلقيا كجماعة إحياء كما كانت الجماعة فى العشر سنوات الأولى منذ تأسيسها، لكن غواية الحكم وغواية الحشود أعمت بصره وبصيرته فلم ير سوى الصدام الذي جنى على الديمقراطية وعلى الثورة ومطالبها، وأعادت الجماعة بيدها عقارب الساعة إلى الوراء، ثم انفصلت عن الواقع، مرددة كالمجنون “الشرعية الشرعية”.
لانبرأ قاتلا ولا نعفوا عمن استباح الدم على الجهتين، لكن المؤكد أنه كان أمام الإخوان خيارات متعددة لحقن الدماء وحفظ الثورة، لكنها أبت بفعل الأثرة والعمى الاستراتيجى الذي حفر لنا جميعا مكانا مستحقا فى قاع الجحيم الذي نعيشه اليوم ولا حول ولاقوة إلا بالله.