جهاد محمود عبد المبدي
التغلغل الصهيوني في وسائل الإعلام (1/2)
تحدثنا في المقال السابق عن بعض الجوانب الجوهرية للتغلغل الصهيوني في وسائل الإعلام، وعن أهمية دور الإعلام في الاستراتيجية الصهيونية، ولازلنا نستأنف الحديث حول هذا الموضوع.
واستكمالاً لما سبق، يمكن القول إن النجاح الذي حققه الصهاينة في إقامة دولتهم في فلسطين، وتنفيذ الكثير من مخططاتهم وأهدافهم، يعزى إلى أن سياسية التضليل الإعلامي التي يتبناها هؤلاء القوم، لها أسسها وقواعدها وضوابطها وآلياتها، التي يحمل لواء الدعوة إليها ما لا حصر له من العلماء والمثقفين والساسة وغيرهم من ذوي الخبرات المتراكمة والتخصص في كافة الأنشطة والمجالات.
فإذا ما أرادوا مثلاً تزوير بعض الحقائق التاريخية، أو الترويج لأخبار مختلقة لا أساس لها من الصحة والمصداقية، لسلب العقول بعد التأثير عليها، بغية تحويل موقفها إلى النقيض، فيما يخدم بقاء ووجود دولتهم المزعومة، فإنهم يطلقون علمائهم وكبار مفكريهم ومثقفيهم أو الموالين لهم من تلك الفئات، لفتح الملفات ومناقشة الموضوعات بشيء كبير من الموضوعية والمصداقية، ويدعمون أقوالهم بالأدلة والأسانيد الصحيحة، ثم يخبئون وسط هذا الركام من الحقائق معلومات كاذبة ومزيفة ومضللة تخدم أهدافهم ومصالحهم، بالكيفية التي تجعل المتلقي لا تخالطه الشكوك والريب بشأن جميع المعلومات والحقائق المذكورة.
ليس هذا فحسب، بل راحوا يجندون في الإعلام العربي – وفي الأنظمة القليلة التي تعادي الكيان الصهيوني – بعضاً ممن يسمون أنفسهم بالمطورين والمجددين والمتحررين والمثقفين، وما أولئك إلا فوضويون، دورهم قائم على البث والترويج للأفكار الهدامة على النهج الذي يرسمه لهم ويحدد معالمه الساسة الصهيونيين، من أجل صياغة فكر جديد لدى الأمة، لم يكن متعارفاً عليه من ذي قبل، يدور ويسبح في فلك محدد، وهو مجافاة الإسلام منهجاً وفكراً وسلوكاً، لخلق حالة من الجهل والشك والفوضى العارمة، وتهيئة الرأي العام لقبول الوجود الصهيوني والاعتراف بشرعيته وبسيادته المزعومة.
كما أجاد وأتقن هؤلاء القوم – عن طريق التغلغل في وسائل الإعلام العالمية – نشر وترسيخ حرب الألفاظ والمصطلحات، بغية تحطيم معنويات الأمة العربية والإسلامية، وتمزيق أواصر الشخصية القومية العربية، وغرس مفاهيم مكذوبة ومبتدعة، تفتقر إلى المصداقية، وتبعد عن الحق كبعد السماء عن الأرض، ومن ذلك إظهار الدولة اليهودية بمظهر الدولة المضطهدة المعتدى عليها، التي تقاوم وتناضل من أجل الحفاظ على بقائها ووجودها، وأمنها واستقرارها، ورد الظلم والعدوان الواقع عليها من الإرهاب الفلسطيني والعربي على حد سواء.
وكذلك تحريف وتحوير مصطلح معاداة السامية، لإخفاء ورائه خستهم ووضاعتهم، لإيهام الأمم والشعوب بأنهم سلالة الجنس السامي وشعب الله المختار. وقد نجحوا في هذا الأمر نجاحاً منقطع النظير، وبات أي شخص تزل قدماه ويتجرأ على انتقاد جرائمهم الوحشية والبربرية ضد الشعب الفلسطيني، أو ينتقد سياستهم ضد العرب والمسلمين، مهما اتصفت بعدم المشروعية والتطرف والعدوان، فإنه يحاكم بتهمة معاداة السامية.
ولازالت حرب الألفاظ والمصطلحات مستمرة من خلال العزف على أوتار الإبادة النازية لليهود ومحرقة الهولوكست، من أجل المضي قدماً نحو ابتزاز العالم الغربي، لإجباره على الدفاع عن وجودهم ومكتسباتهم.
ولو دققنا النظر أكثر في مدى تأثير الإعلام الصهيوني على القضية الفلسطينية على وجه الخصوص، وكذلك الإعلام الغربي والعربي الموال لهم، لأدركنا مدى قوة هذا التأثير، إذ سرعان ما تحولت الصورة إلى النقيض، فتحولت دولة العدو إلى دولة ديموقراطية، وتحول المغتصب إلى صاحب حق، وتحول أصحاب الحق الذين يدافعون عن أرضهم ومقدساتهم إلى إرهابيين ومتطرفين وفوضويين، وتحولت الجرائم الصهيونية الهمجية إلى حق مشروع في الدفاع عن النفس، وتحولت المقاومة الفلسطينية إلى إرهاب غاشم ينبغي على دولة إسرائيل المزعومة أن تحاربه بكل ما أوتيت من قوة، وأن تستخدم في قمعه كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.
وأصبحنا نرى الآن وسائل الإعلام الصهيونية والغربية، وبعض وسائل الإعلام العربية، وهي يرتفع صراخها ويعلو نحيبها، وتندد بالعنف والتطرف والإرهاب الذي تمارسه حركات المقاومة الفلسطينية، ربما من أجل إصابة جندي صهيوني مغتصب. أما التطهير العرقي وسقوط العشرات بل والمئات من القتلى المدنيين الفلسطينيين، وقتل الأطفال الرضع والشيوخ الركع، والنساء والعجائز وقصف المنازل بشكل عشوائي ومتكرر، فلا يقابله إلا تعتيم إعلامي غربي خائن، وإعلام عربي مسيس، يصم أذنيه ويغلق عينيه عن الحقيقة والجرائم التي يراد لها أن تطمس معالمها وآثارها خدمة للنهج الذي ترسمه السياسة الصهيونية.
وختامًا، فلقد أثبت الواقع فشل الأمة فشلاً ذريعاً على كافة الأصعدة، وما بتنا نلاقيه الآن من ضياع فلسطين، وانهيار المنظومة العربية بأكملها، وما صاحب ذلك من ذلٍ وهوان، نتيجة للمؤامرات السياسية والإعلامية والاقتصادية التي اخترقت سهامها قلب الأمة، ما هو إلا نتاج لما جنته أيدينا لا أيدي أعدائنا، لأن ما فعلناه في أنفسنا لا يقل وقاحة وحقارة عما فعلوه بنا، وما سيفعلونه مستقبلاً مراراً وتكراراً، فلا العالم العربي والإسلامي المهزوم الهزيل يعي ويتعلم، ولا مؤامرات أعدائه المتربصين تنقطع أو تتوقف.