المساء
مؤمن الهباء
محنة الطبقة المتوسطة
يقولون عنها إنها القاعدة العريضة في المجتمع.. وإنها رمانة الميزان التي تحافظ علي الاستقرار والتوازن.. وتحول دون الاختلال والسقوط في الفوضي.. تلك هي الطبقة المتوسطة التي تضم الأغلبية الكاسحة من أبناء الوطن.. الذين يقعون في المنطقة الوسطي.. بين أقلية ثرية مترفة من رجال المال والأعمال ونجوم الفن والرياضة والسياسة والإعلاميين الجدد ونجوم الدروس الخصوصية.. وأقلية معدمة فقيرة تسكن المقابر ولا تجد قوت يومها.. تعيش علي الفتات.. وتكسب رزقها بالفهلوة.. وتخضع لقوانين وأعراف العشوائيات.. ولا تعرف شيئاً عن الحقوق والواجبات.. وتفتقد لأبسط أنواع الرعاية.. وبالذات الرعاية الصحية.
هذه الطبقة المتوسطة العريضة تتكون من الموظفين والعمال والفلاحين وصغار التجار والنقابيين الذين يعيشون بالستر.. ولهم دخول مستقرة.. تغطي احتياجاتهم وربما يفيض منها ما يدخر لقابل الأيام.. ولتحسين مستوي المعيشة.
هذه الطبقة الواسعة العريضة هي ملح الأرض.. هي التي تحمل قيم المجتمع وعاداته وتقاليده وثقافته وتحميها من الدخيل المستورد.. وتضمن لها البقاء.. وهي التي تواجه الصدمات والتقلبات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الطارئة.. وفي جيناتها قيم الشهامة والفداء.. ومنها يخرج الرجال الذين يدافعون عن الوطن ضد أعدائه.. ويستشهدون عن طيب نفس.
لذلك يحذر خبراء السياسة والاقتصاد والاجتماع عادة من تآكل الطبقة المتوسطة أو تشرذمها.. حتي لا يصبح المجتمع سهل الاختراق.. والتآكل هنا يعني أن يذهب قسم منها إلي الطبقة العليا الثرية التي هي بطبعها "براجماتية" نفعية.. تبحث دائماً عن مصالحها.. وترتبط في الغالب بالخارج.. وشحيحة في العطاء بدون مقابل.. ولا تهتم إلا بالأرباح وجني الثمار من أي طريق.. أو يذهب قسم منها إلي الطبقة المعدمة الفقيرة جداً.. وهي طبقة ضائعة تابعة وفوضوية.. غاضبة ومستثارة ومتقلبة.. لا تنظر إلا إلي اللقمة التي تسد بها رمقها.
والذين يضيقون علي الناس أرزاقهم هذه الأيام.. ويشعلون النار في أسعار السلع والخدمات دون إكتراث بالنتائج.. لا يدركون حجم الضرر الذي يلحقونه بالطبقة المتوسطة التي تعيش بالستر.. وبالتالي لا يدركون حجم الخطر الذي يلحقونه بالمجتمع ككل.
الحكومة تقلل قيمة الجنيه وترفع الدعم وتفرض ضرائب جديدة وتزيد في أسعار الكهرباء والمياه والدواء بمعدلات متسارعة وتمهد للتخلص من آلاف الموظفين.. والتجار الجشعون يستغلون الموقف ويزيدون الأسعار اشتعالاً بلا حسيب أو رقيب.. بينما رجال المال والأعمال وطبقة المنتفعين يصفقون ويهللون ويشجعون علي المزيد من الإجراءات "الإصلاحية" التي ـ في زعمهم ـ سوف تجذب المستثمرين الأجانب.
والنتيجة النهائية لكل ذلك أن قطاعات من أبناء الطبقة المتوسطة صاروا يعيشون الآن في محنة حقيقية.. وهم يرون غطاء "الستر" ينسحب من فوقهم رويداً رويداً.. ويهاجر بعضهم قسراً إلي الطبقة الفقيرة المعدمة.. فالحكومة تأخذ ولا تعطي.. أجورهم ودخولهم ثابتة.. بينما تكاليف الحياة تتعاظم يوماً بعد يوم.
في ظل هذه المحنة لا تعجب إذا أقبل عليك رجل وقور يرتدي بدلته القديمة ويمد إليك يده سائلاً المساعدة بكلمات غير منمقة لكنها خارجة من القلب الجريح.. ولا تعجب عندما تصادفك سيدة في ملابس أنيقة تنتمي للماضي في إشارات المرور أو علي الكباري تسألك أن تعطيها مساعدة لأن المعاش لم يعد يكفي روشتة الدواء.. أو يدخل عليك شيخ له هيبة في المسجد ليطلب المساعدة كي يكمل مصاريف الأولاد في المدارس.
ولا تعجب إذا وجدت رجالاً ونساء كانوا مستورين يقفون اليوم في طابور الجمعيات الخيرية طالبين المساعدة.. ولا تعجب حين تري جيشاً من الموظفين والموظفات يتزاحمون علي أسواق الملابس المستعملة.. ولا تعجب عندما يقول لك أحدهم: لم أعد أجرؤ علي استخدام جهاز التكييف في بيتي.. تركته علي الحائط للزينة.. ولكي أقول لأحفادي كنت يوماً رجلاً محترماً.. أنعم بالتكييف والثلاجة والغسالة الأتوماتيكية.. لكن ذلك كان زماااان.
رحم الله أيام زماااان.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف