المصرى اليوم
عباس الطرابيلى
ناكلها.. بدُقَّة!!
والدُّقَة يعرفها كل المصريين، وهى خليط من ملح وفلفل وكمون وشوية سمسم للمقتدر، وهى غير دُقَة الشامى من الزعتر الجاف والسمسم وقليل من الملح. وإذا كان الشامى «السورى واللبنانى» يأكلها بالخبز مغموساً فى زيت الزيتون «العذرى» أى المعصور على البارد.. تحت ثقل الأحجار، فإن المصرى- بسبب الفقر- يكتفى بالدُقَّة المصرى المصنوعة من الملح والكمون والفلفل الأسود!!

والمصرى يأكلها غموساً بالعيش الملدن.. ربما لتكون إفطاره.. وربما أيضاً وجبة للغداء.. وقد تكون أيضاً وجبته على العشاء!! يفعل ذلك بسبب الحاجة والفقر، أو حتى يكتفى بقليل من الملح الرشيدى الخشن.. طعاماً، بشرط أن يجد القدوة والمثل.. فلا يأكل هو خبزه بالدُقَّة، بينما هناك من المسؤولين من يأكل أفضل من ذلك، يعنى يمكن أن يقنع المصرى برغيف بهذه الدقة بشرط ألا يضحك عليه المسؤول، ويأكل هو الكافيار على العشاء.. أما الإفطار فهو شرائح من السيمون فيميه، أى السالمون المدخن المستورد، وإذا كان ثمن كيلو سمك السالمون المجمد يتجاوز ١٧٠ جنيهاً.. فكم يكون سعر كل ١٠٠ جرام من السالمون المدخن؟!

والمصرى- أيضاً- هو صاحب مقولة «تموت الحرة ولا تأكل بثدييها» أى ليست كما تفعل شعوب أخرى تحترف الدعارة، التى هى أقدم حرفة فى التاريخ.. وإذا عدنا إلى أكل الدُقة فإن هذا المصرى من أفضل شعوب الأرض تحملاً للمكاره.. وهو- عند الشدائد- حدث ولا حرج، وكم من أزمات قفز المصرى فوقها بصمود عظيم، وضحى بكل عزيز حتى يوفر لوطنه ما يحتاجه هذا الوطن.. ولو قروش معدودات.. ويحمل لنا التاريخ النضالى قصصاً عما قدمه هذا الشعب من تضحيات.. ربما أفضلها ما حدث عام ١٩٥٦ حتى عبرنا العدوان الثلاثى، الذى تكاتفت علينا فيه قوى بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وكنا نطبخ على الكانون بمخلفات الخشب والحطب لنوفر الجاز، ونخلط الأرز بكميات من الشعرية البلدى لنوفر بعض الأرز، ونكتفى بنور لمبة الجاز، لنوفر الكهرباء، كل ذلك لكى نواجه هذا الغزو، ولا نستسلم.

تماماً كما ضحى- نفس الشعب- بكل الأساسيات استجابة لشعار: لا شىء يعلو فوق صوت المعركة، بعد هزيمتنا فى يونيو ٦٧، وكيف سخرنا كل شىء وتحملنا الكثير لكى نتجاوز هذه المأساة.. وهنا لا تقولوا لنا إن الإنجليز فعلوا ذلك خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، بل وما بعدها من الاكتفاء ببيضة واحدة للفرد ثلاث مرات فقط فى الأسبوع، أو بقبوله تركيب «رقعة» من الجلد على قماش كم الجاكيت، ولا بعدد محدود من قطع السكر أسبوعياً، لأن الحرب تحتاج كل ذلك، حتى انتصر الشعب الإنجليزى.

لا تقولوا لنا ذلك، لأن الشعب المصرى فعل أكثر من ذلك، حتى من قبل ثورات القاهرة الشعبية أيام بونابرت وخليفته كليبر.. ونحن- كل المصريين- أصحاب التعبير الخالد: «ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع» فقد تعود الشعب على العطاء وبسخاء، بشرط واحد- ووحيد- هو أن يجد القدوة من الكبار، ومن المسؤولين، وربما من حسنات الرئيس عبدالناصر ما كان يقال إن عشاءه كان عبارة عن قطعة جبن أبيض ورغيف من الخبز البلدى.. وليس بدعة انتشار صورته وهو يشرب من القلة القناوى.

المهم القدوة والمثل.. واقتناع الناس بأن هذا الحاكم يأكل مما يأكل كل الناس، ولا يشرب كما يشربون.. هنا سوف يفعل الشعب المستحيل من أجل مصلحة الوطن، بشرط الاقتناع، وإذا كان المصرى يؤمن بأن القناعة كنز لا يفنى، فإنه يؤمن بذلك فعلاً عن اقتناع.

ولكن هل «كل مسؤولينا» يفعلون ذلك.. هل يأكلون مما يأكل البسطاء ويلبسون مما يلبسون.. وهل- هم- فى بيوتهم يفعلون ما يفعله المصرى العادى من تقشف.. أم نذكرهم بما فعله المسلمون الأوائل أيام الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عام الرمادة؟!

** ولكننى لا أرى إلا إسرافاً وتبذيراً، والشعب غير مقتنع بأن الحكومة تنفذ مشروعاً قومياً للتقشف والحد من النفقات، بينما هى تطالب الناس بذلك، ولا تبدأ بنفسها ونفقاتها، ولا توقف «كل» مشترياتها وتعلن ذلك على الناس، ولمدة 10 سنوات متواصلة، ليس لأن مخازنها مملوءة بقطع الغيار، وعمليات الشراء المستمرة، ولكن لأنها يمكن أن تكتفى بما لديها، وتوقف استنزاف ما لديها من اعتمادات.

** وليس فقط ما لدى الحكومة وكل وزاراتها وهيئاتها من أساطيل سيارات ومشتريات من كل نوع، ولكن ما يراه الناس من هذه السيارات يفوق الوصف والخيال.

** نريد من كل وزير أن يعلن على الناس ما تم اعتماده من ميزانيات لوزارته.. ثم يعلن حجم التخفيض فيها وبنسب لا تقل عن 50٪ وإعادة النصف الآخر إلى خزانة الدولة.

وإذا اقتنع الناس بذلك، ورأى فيه القدوة والمثل، فإننا سوف نتسابق إلى أكل الدُقَّة.. أقصد بقبول مشروع قومى شعبى للتقشف.. كده.. ولا إيه؟!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف