زمان، كنا شعباً يعلّم غيره من الشعوب.. عندما كان عندنا «مِعلمين»، والمِعلم هنا ليس هو المدرس.. ولكنه مِعلم الصنعة، أى الأسطى، الذى لم يكن يجرؤ على ارتداء حزام الصنعة إلا بعد أن يجيدها، ويمر بكل مراحلها، ولهذا كانت مصر «تعج» بمن يرتدى على وسطه حزاماً ليعلن عن إجادته الصنعة التى يحترفها.. وتوفر له العيش الحلال.
ومن المؤكد أن هذه الميزة التى كان يتميز بها الشعب المصرى هى التى دفعت السلطان العثمانى سليم الأول، عندما غزا مصر واحتلها بالخيانة والخديعة عام 1517- هى التى دفعته إلى أن يجمع كل أسطوات مصر وكبار معلميها، وشحنهم بالآلاف إلى استانبول «الآستانة»، عاصمته فى تركيا العثمانية، ليبدأ بهم بناء دولته الكبرى.. فاختفى من مصر كل أسطواتها - أى خبرائها ومعلميها - فانتعشت الصناعة والتجارة هناك، فى الدولة العثمانية، ونزلت على مصر ستائر النسيان والتأخر التى استمرت 400 سنة.. والسبب ضياع خبراء مصر فى كل صنعة وحرفة، وهم بلغة ذاك العصر كانوا أسطوات الحرف والصنايع!!
الآن.. الصورة تتغير، لم نعد ذلك الشعب، الذى علّم - ويعلّم - غيره أسرار الصنعة.. وإذا كان محمد على باشا هو أول من اكتشف أو أعاد اكتشاف القوة الكامنة فى الشعب المصرى، ولذلك وضع أساس مصر الحديثة.. فهل فينا من يعيد اكتشاف مكامن القوة والتقدم.. وهى فى المقام الأول تقوم على إحياء حب العمل.. وعشق العرق والإنتاج.. وأن يطبق ما طبقه الأجداد: نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع، ونغزو العالم بما ننتج؟!
ويجب ألا نقول إن الدولة يجب أن تعطينا المَثل.. والقدوة.. فالدول ما قامت إلا لكى تقود وتدير الشعب فى أحسن صورة.
ويجب ألا نتحجج بأن الناس تعانى، أو نتحجج بحالة الفقر والعوز.. وأننا نعانى أزمة طاحنة.. إذ من بطن المآسى والمشاكل والأحزان تشرق الشمس.. وتنمو الإرادة.. بحسن الإدارة.. والقدوة.
والقدوة الآن تأتينا من شعب سوريا الشقيق.. الذى يعانى كما لم يعانِ أى شعب آخر فى العالم، ومن قرون، إذ هو يعانى من دمار رهيب طال كل شىء.. ولكنه لم يجلس على الأطلال يبكى ما كان، ويذرف الدموع ساخنة على ما كان يملكه من ثروة وتجارة وصناعة.. لم يجلس على الأطلال فى ظلال خيمة ممزقة لاجئاً لا يجد ما يأكله.. هنا تحرك- داخل هذا الشعب- كل ما يدفعه للعمل والإنتاج ولم ينتظر ما تجود به الدول الشقيقة.. أو تساعده بها الدول التى ساهمت فى صنع مأساته.. وها هو الشعب- وسط الدمار والأطلال- قد خرج من وسط الدمار ليس ليبكى.. ولكن ليعمل فى أى شىء وكل شىء.. المهم: أن يأكل من عرقه، ويعلّم أولاده فى أسوأ ظروف حياة يعيشها أى شعب.
ها هو الشعب السورى.. والأسرة كلها تتعاون لتأكل من عرقها.. فالأم حولت بيتها إلى مصنع صغير.. ومطبخ كبير، تعد من الطعام ما يحبه كل مصرى، وما أطيب من الطعام السورى.. إلا سماحة الشعب السورى وإلا البسمة السورية رغم كل ما يعانيه كل أفراد الأسرة!
الأب يوفر المواد اللازمة، والأم تجهزها وتطبخها.. والبنات تضعها فى أطباق شديدة النظافة وتغلفها.. والأولاد ينطلقون يعرضونها للبيع على النواصى أو تحت مظلات صغيرة تحميهم من الشمس.. الكل- كل الأسرة- تحولوا إلى خلية نحل.. العمل أساسهم كلهم.. ولا يعرفون العيب فيما يصنعون.
** وفى المدن الجديدة فتحوا المحال والمطاعم، يبيعون ما ينتجون وبأسعار أقل كثيراً من مثيلاتها.. رغم أنها أكثر نظافة، ولاحظوا هذا الازدحام على المطاعم السورية: الجيدة، الرخيصة، اللذيذة.. حتى إننى أخشى عليهم وعليها من غيرة المصريين ممن يعملون فى نفس القطاع.. وليست المطاعم السورية وحدها.. بل فى معظم الحرف الصغيرة: من نجارين وسمكرية وباعة خردوات ومفروشات وأعمال ديكور.. وهى أجود كثيراً من غيرها.. بل أرخص، يعنى بنصف الثمن، فهل المصرى «يدعى» أن الأسعار زادت، أم يحاول أن يتربح أكثر مما يستحق.
■ ■ والمهم هو جودة ما يعرضون فى كل ما يصنعون.. ولذلك زاد الطلب على ما ينتجون بشكل لافت للنظر.. ولذلك يقبل عليهم وعليها كل المصريين، دون حسد أو غيرة.
■ ■ هنا نقول: لماذا لا نتعلم من الأشقاء السوريين.. وأن تعود الأسرة المصرية أسرة منتجة، الجد يعلّم الأبناء.. والأبناء يعلمون الأحفاد، وأن تعود الأسرة المصرية.. أسرة منتجة يتوارث أفرادها أسرار الصنعة.. ويتوقفون عن انتظار تراب الميرى والوظيفة الميرى، ولماذا نسى المصرى نظام الأسطوات الذى صنع الحضارة المصرية على مر الزمن؟
تعالوا نتعلم من الأشقاء الذين رفضوا الاستسلام وانطلقوا إلى العمل، فمن رَحِم الأزمات والنكبات تولد الشعوب من جديد.