المساء
محمد جبريل
ذاكرتنا القومية
كان لأستاذنا الراحل كامل زهيري أمنية طالما تحدث عنها. وهي أن تعني مؤسسات الدولة بتنشيط ذاكرة الناس. ليس ناس البلد وحدهم. بل حتي الوافدين إليها من العرب والأجانب.
لي قصة واجه فيها شعب ما مؤامرة لإفقاده ذاكرته. منعوا كل ما يمكن من خلاله أن يتذكر الناس ما مضي. ولكي تظل الذاكرة الجمعية قائمة. فقد تكفلت بذلك حواديت الجدات. خيط متصل من الحواديت. يصل الماضي بالحاضر ويرنو إلي المستقبل.
إذا كانت حواديت الجدات تمثل عنصراً إيجابياً في الحفاظ علي ذاكرتنا القومية. فإن الاسهامات التي يبدو بعضها هامشياً. قد تمثل استفزازاً لإلقاء الأسئلة. مثل: متي؟ وأين؟ وكيف؟
جلستي في قهوة الفيشاوي تجاوز مشاهدة خلق الله. أو الحياة في معلم مهم من القاهرة المعزية. تستعيد الذاكرة - أو الخيال - جلسات الرموز المهمة في حياتنا الثقافية والفنية: نجيب محفوظ - علي سبيل المثال - ونكاته وضحكاته المقهقهة. وسجالات القافية بينه وبين نجمي الكوميديا الفار وسلطان. اخترق درب الطماعين فأبحث عن الأماكن التي ربما تردد عليها طه حسين أعوام دراسته بالأزهر. أمضي وراء سؤال الرجل الذي تصور - من كلماتنا عن بيرم التونسي- أن صديقي الدكتور محمد زكريا عناني وأنا. نعد بحثاً عن الرجل. قال: هل تعرفون أين كان يقيم التونسي؟ إنه هناك. في شارع حلاوة. وعرفنا أن بيرم أقام في البيت الصغير. القصير. المتهالك. خلف جامع أبوالعباس. أعواماً كثيرة. قبل أن يرحل إلي القاهرة. انتسابه إلي السيالة إذن بالمعني وليس بالإقامة الحقيقية. أطيل التوقف أمام البناية التي كانت تشغل إحدي شققها رابطة النهضة.. نادي حسين توفيق علي أمين عثمان وهو يتجه ناحية المصعد. ثم أفرغ فيه رصاصاته.. أفتش عن بقايا الأماكن التي تردد عليها أحمد عرابي - عقب عودته من المنفي - وسيد درويش أول قدومه إلي القاهرة. أميل من ميدان السيدة زينب إلي شارع سلامة. هنا كانت يقيم "شعب" عودة الروح: محسن وسنية ومصطفي ومبروك وآل سليم. استدعي في الشوارع المتفرعة شخصيات أجاد تصويرها يحيي حقي وفتحي رضوان ويوسف السباعي في ميدان السيدة زينب وجنينة ناميش وأبي الريش وحارة الميضة.. أتخيل الطريق الذي كان يقطعه سلامة موسي كل صباح من بيته بشارع الفجالة إلي دور الصحف ومكتبات وسط البلد.
عشرات الصور. تمثل - في تواليها واتصالها - مشاهد من تاريخنا الحديث. تلح في ضرورة الحفاظ علي ذاكرتنا الوطنية. فلا نكرر مأساة هدم فيلا أم كلثوم. وإهمال بيت سيد درويش حتي لحقه الدمار والاكتفاء بكلمات متحمسة عن خطط ومشروعات لاستعادة القاهرة المعزية من خلال أعمال نجيب محفوظ.
تغلبني الحسرة وأنا أمضي مبتعداً عن زقاق المدق. في بالي محو كل ما يمت إلي رواية محفوظ. حتي اللافتة النحاسية رفعت من موضعها. وامتدت - لصق الحوائط - أرفف امتلأت بالبضائع. يلاحقني هتاف البائع الغاضب: مللنا سؤالكم عن اختفاء الزقاق.. دعونا نأكل عيشاً!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف