لا أذكر متى تم اختراع ما بات معروفا باسم «البار كود»، ولكننى أدركت وجوده الكثيف عندما وصلت إلى الولايات المتحدة فى القرن الماضي. فى البداية بدا الأمر بالنسبة لى لغزا كبيرا حينما وجدت كل السلع التى أتعامل معها يوجد عليها مجموعة من الخطوط السوداء المتلاصقة، والتى تتفاوت أحجامها من حيث السمك والعدد. ولكن اللغز أصبح مفهوما عندما زرت أول «سوبر ماركت» حقيقى فى حياتى ووجدت أنه ساعة الدفع فإنه يجرى تمرير جانب السلعة على نافذة زجاجية فيظهر للبائع معلومات عن السلعة من بينها الثمن بالطبع. وهكذا انتهت واحدة من العقد التى يتعامل معها الإنسان أثناء حياته، وأصبح الأمر شائعا بشدة ليس فقط الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما فى العالم كله، بما فيه مصر أيضا. صار «البار كود» لغة عالمية يتلخص عندها كل المعلومات عن السلعة من زمن الإنتاج إلى الوزن والنوع والثمن، نوع من البطاقات الشخصية التى يتم قراءتها ضوئيا فيكون التأكيد على أن هذه السلعة حقيقية، وليست وهما من الأوهام. كان «البار كود» تطبيقا صافيا للعولمة، فمن ناحية هو يكشف عن أصول المسائل، ولكنه يجعلها قابلة للقراءة فى العالم كله. هو نوع من التسجيل والإتاحة لمعلومات وتسهيل للتبادل وجعله سريعا كما هو الحال مع سرعة الضوء الذى يلتقط ويسجل ويذيع.
ولكن ليس معنى ذلك أن كل بلدان العالم، سواء فى التعامل مع «العولمة» والظواهر العالمية؛ فمصر لها طريقتها الخاصة فى وضع بصمتها على كل ما هو مطبق فى العالم. أصبح ذلك ملحا عليّ، وعادت عقدة «البار كود» لى مرة أخرى، عندما أصبحت مضطرا للسفر إلى مدينة هيوستون بالولايات المتحدة بشكل منتظم وكان مسارى دوما من القاهرة إلى فرانكفورت إلى هيوستون. وهكذا كان على مع زوجتى العزيزة وبانتظام أن نذهب إلى مطار القاهرة، وهناك نحصل على بطاقتى الصعود إلى الطائرة، ومعها بطاقتان للصعود فى المطار التالى، وعلى كل البطاقات كان يوجد دوما ذلك «البار كود» الذى يعرف بمصداقية التذكرة وحاملها. ولكن فى مطار فرانكفورت، وبصورة منتظمة تحدث مع مرور 28 يوما، فإن الوقوف فى الطابور الخاص بالدخول إلى بوابة الطائرة المتجهة إلى هيوستون، كان ينتهى دوما بفشل الجهاز الضوئى فى قراءة «البار كود» الذى تلقيته فى مطار القاهرة. ولو أن ذلك حدث فى أزمنة قديمة ربما لما كان فى الموضوع مشكلة كبري، ولكن فى هذا الزمان، وعندما يصير العرب نوعا من «المسجلين الخطرين» فى العالم، وعندما يكون فى اسمك عبد المنعم وعلى وعبدالعال، فإن حالة من الارتباك لابد وأن تذيع، وفى بلد مثل ألمانيا فإن النظام محكم، والخروج عليه عن طريق بطاقة صعود ممنوحة فى مطار القاهرة سوف تجعل الارتباك انزعاجا كبيرا.
حمدا لله فإن الواقعة المتكررة لم تؤد إلى ما لا يحمد عقباه، فقد كان الأمر دائما ينتهى بمن يصل إلى حل المعضلة، وربما بالتعود مع القادمين من القاهرة، إلى إصدار بطاقة صعود إلى الطائرة يمكن قراءتها ضوئيا، فيظهر نور أخضر يسمح لك بالمرور، ويصير من حقك أن تتنفس الصعداء. تأمل الموضوع، وربما لن يقتصر التفكير على جهاز ما لا يعمل بكفاءة فى مطار القاهرة (أضيف له فى الرحلة الأخيرة عدم القدرة على قراءة بطاقة الأميال التى أحملها)، حتى ولو أضفنا حالة الارتباك الدائم والفوضى عند الصعود إلى باب الطائرة فى المطار المصري. الأرجح أن التفكير فى الموضوع سوف يصل إلى أن هناك معضلة أعمق تتعلق بالبار كود المصرى فى التعامل مع العولمة ومع العالم. المسألة كلها ليس بالضرورة أن تكون جهازا، أو التدريب عليه فيصير شيئا آخر، وإنما لأن المعلومات على «البار» ليست كافية، أو أن الحبر المصنوع منه ليس أصيلا بما فيه الكفاية كما هو الحال مع الحبر الذى نستخدمه فى الانتخابات، ونجد أنه يزول فور استخدامه، بينما هو فى الهند يصمد 24 ساعة.
هناك فجوة ولا شك، فلا الأجهزة تعمل كما يجب عليها أن تعمل فى بقية العالم، ولا المؤسسات تعمل بنفس الطريقة العالمية، ولا الأفراد قبلوا بعد أن «البار كود» المصرى لا بد له وأن يعمل فى عالم اليوم كما يعمل فى بقية دول العالم. لماذا يحدث ذلك يحتاج قدرا غير قليل من الاجتهاد الذى يذهب إلى ما هو أعمق من مراجعة مناقصات شراء الأجهزة، أو تدريب العاملين على العمل عليها، أو باختصار التحقق من الجودة فى كافة مراحل طبع بطاقات الصعود إلى الطائرات. الاجتهاد لا بد وأن يذهب إلى التعليم ومدى جودته، ودور العلم وليس الفهلوة فى تتبع الأمور، وإلى أخلاقيات العمل التى لا تعمل بكفاءة فقط، وإنما يكون لديها الاستعداد لمراجعة الأخطاء وتصحيحها، وبناء نظم تماثل تلك التى توجد فى بلاد العالم الأخري. هنا تحديدا ربما نكون قد وصلنا إلى مربط الفرس، وهو كيفية التعامل مع حقيقة أن لدينا مقاومة ذاتية للاعتراف بما وصل إليه العالم قبلنا، وكما يذكر الغربيون دوما أفضال الفراعنة، وكذلك فضل الحضارة العربية، فإننا لا نحب من يذكرنا بفضل الغرب علينا فى أن نطبع بطاقة صعود للطائرة عليها «بار كود» يجعل حياة البشر أكثر سهولة مع فضائل أخرى لا تقل أهمية. مثل هذا ليس من عمل الشيطان، ولكنه من عمل الملائكة بعد فضل الله بالطبع.