لكن كل الصفات الطيبة التى تحدثت عنها لم تمنع «منتصر» من المشاركة فى المؤامرات التى تدور داخل قصر الرئاسة. وبقدر ما كان يظهر العطف على المحتاجين ولا يقرب الخمر ولا النساء فى شهر رمضان الكريم، فإنه لم يكن يتردد فى خيانة أقرب صديق له؛ إرضاء للجالس على عرش السلطة، كما لو كان دكتور جيكل ومستر هايد فى شخصية واحدة. وربما كان هذا هو السبب فى سر جاذبيته وتصويره فى الرواية على نحو لا يخلو من التعاطف الذى يغلب عليه الإدانة فى النهاية. فهذا «السمسار» بالغ الذكاء الذى نشأ فى بيئة فقيرة عندما انضم إلى نادى المليارات، لم يشغل نفسه بتبنى برنامج اجتماعى لرعاية أسر العشوائيات التى لا تجد ما تأكله، بينما هو ومن حوله لا يكفون عن نهب أموال هذا الشعب وثرواته، خصوصا فى صفقة الغاز مع إسرائيل التى جعل الرئيس يدفع وزيره إلى توقيعها وإلى العمل من أجل إتمامها. وقبل يومين فقط من ليلة القدر، تحددت ساعة التخلص ممِن ظنهم الرئيس أشد خطرا عليه. وانتابت «منتصر» مشاعر متضاربة، بعد أن دعا صديقه اللواء «عبد العظيم الخولى» ليسلمه إلى خصومه، كما أسلم يهوذا السيد المسيح إلى طالبيه. ولكن «منتصر» لم يدفع الثمن الذى دفعه يهوذا، بل انتقل من ثراء إلى ثراء، ودخل فى صفقة الغاز مع إسرائيل التى كانت ارتفاعه الأخير وسقطته الأخيرة فى آن. وقبل أن يصل إلى هذه النهاية، يجد نفسه دون أن يدرى يعانى أمراض الشيخوخة، وذلك بسبب الاستهلاك المفرط لإمكاناته البدنية، كما قال له الطبيب السويسري. وعندما يخرج من العيادة، يلعن حظه (؟!) قائلا: «شيخوخة إيه؟ دا أنا لسه يا دوب ابتديت مشوار المليارات». لكنه فى ذروة أحلامه التى بدأت بتكوين حلف جديد مع «عاموس» و«ألفريدو» لا يكفون عن الأحلام فى غزو كازاخستان وأذربيجان, وهى بلاد بكر غنية بالثروات وتركز السلطة والفساد. ولإسرائيل مفاتيح مهمة هناك، فتحت بها عدة بوابات جديدة للاستثمار بين الشركاء الثلاثة فى حقول بترول وتجارة سلاح واستثمارات فندقية وعقارية وسلسلة مولات تجارية فخمة حملت اسم «مونتى ستارز». وكانت المكاسب بلا حدود، غير أن هذا كله لم يكن مانعا من النهاية التى كانت قادمة كالقدر المحتوم. وكانت علامات هذه النهاية عديدة؛ أولها، ما قاله له صديقه «عبد العظيم الخولى» انه رأى الكراهية فى عيون المصريين يوم الأمن المركزي؛ حيث لاحظ أن البلد لم يكن له صاحب على نحو واضح، ولكنه لم يلتفت إلى عبارات صديقه الحميم وأسلمه إلى الرئيس متخليا عنه كما تخلى عن أمثاله من قبل. أما العلامة الثانية، فكانت كلمات صديقته «سيلفيا» التى صحبها معه فى سيارته عبر الطريق الدائرى حول القاهرة، فاسترعى نظرها كثرة العشوائيات المحيطة بها، فسألته عما إذا كان فى شركاته مؤسسة لتنمية المجتمع، فأجابها بأنه لم يفعل ذلك من قبل. وعندما لفتت انتباهه لكثرة العشوائيات تملص من المسئولية، ملقيا المسئولية على الحكومة وعلى الله الذى قدر عليهم الفقر، ومضى فى ذلك قائلا: زإنهم بشر بلا قيمة ولا ضرورة، إنهم يفرطون فى الإنجاب، وهموم العيش والمخدرات هادّين حيلهم فمش حيثوروا أبداس. فتقاطعه «سيلفيا» موضحة له أن هناك ما يسمى «بالمسئولية الاجتماعية لرجال الأعمال». وهى مسئولية تعنى أن رجال الأعمال ينبغى أن يكون لهم دور تنموى فى المجتمع، وأن «المسألة ليست إحسانا، وإنما جهد مدروس مبنى على رؤية وأهداف». ولما لم يبد منتصر تعاطفا أو موافقة على ما قالت، وتحصن بالصمت، فلم تجد «سيلفيا» بدا من أن تقول له: «ألا ترى يا مونتى أن مصر تعيش على حقل من الألغام... أرجوك خد بالك».
ولكن مونتى أو «منتصر» لم يأخذ كلام «سيلفيا» مأخذ الانتباه، ولم يشغل باله بهؤلاء المعذبين فى الأرض. فكانت النتيجة أن انفجر هؤلاء كالطوفان فى الخامس والعشرين من يناير فى ثورة لم تعرفها مصر منذ عشرات السنين، فأطاحت بصديقه الحميم الجالس على كرسى الحكم فى مصر، وجعلته هو يفر بثروته إلى إسبانيا التى كان قد حصل على جنسيتها من قبل- متخليا عن صديقه الرئيس كما تخلى عن كل أصدقائه من قبل. فشخصيته الانتهازية حتى النهاية لا تعرف البقاء مع الأصدقاء فى حالات الازمة، وإنما التخلى عنهم بمنطق: أنا ومن بعدى الطوفان. هذا المنطق هو الذى جعله يفر إلى إسبانيا على يخته الذى يصل إلى الشاطئ الإسبانى سالما، وصدره يموج بضحك مكتوم. وتنتهى الرواية بهذه الجملة التى تكشف عن نمط شخصية من الشخصيات الملازمة لعالم القامعين؛ حيث يكون الصراع عادة وحشيا، لا تراعى فيه قيم الأخلاق أو الشرف أو حتى الوطنية؛ فالانتهازى الذى تنطوى عليه شخصية «السمسار» ليس له وطن ولا دين، فدينه النفوذ ووطنه الثروة وشعاره: حيث تكون الثروة أكون.
ويمكن لنا بعد ذلك أن نستعيد أحداث الرواية عبر تتابعها الزمنى مارة بثلاثة عصور، فنجد أنها تعبر عصر عبد الناصر بسرعة ولا يكون لمنتصر فيه أى إنجاز بارز، بل على العكس كانت أعين الاسترابة للواء «لبيب الديب» تطارده باستمرار. وسرعان ما ننتقل إلى عصر السادات، وهنا يتباطأ إيقاع الرواية، ويمتد الزمن بالأحداث ليشهد صعود منتصر الصاروخى إلى حلم المليارات. وهو الحلم الذى يتحقق بالفعل فى زمن السادات أو فى عصر الانفتاح، وتصل عمليات السمسرة بمنتصر فى هذا الزمن إلى ما يقرب من الذروة. أما الذروة الحقيقية، فتأتى فى زمن مبارك الذى وصل فيه الفساد إلى حد لم يصل إليه من قبل، والذى أهدر فيه المستغلون حقوق الشعب المسكين الذى لم يجد فى النهاية سوى الانفجار فى الخامس والعشرين من يناير، حيث يصل «السمسار» إلى الذروة الفعلية بصفقة الغاز التى قام بهندستها مع صديقه الرئيس، وشركائه الإسرائيليين. وهذه العصور الثلاثة لرؤساء ثلاثة واضح أن تحيز الراوى فيها للعصر الأول، وهو عصر عبد الناصر. صحيح أن الراوى يتعاطف مع أمثال «فريد هيكل» وأمثاله من الباشوات وأبناء الطبقة الأرستقراطية المصرية الوطنية؛ لكن هذا التعاطف لا يمنعه من أن يبدى رأيه الموجب فى التحولات التى حدثت. غير أن هذا الرأى سرعان ما يتحول إلى ما يشبه الإرهاص بهزيمة 1967، عندما يحدث استنفار داخل جميع قطاعات جهاز المخابرات؛ بسبب التوتر على الحدود السورية مع إسرائيل، وصدور الأوامر بحضور جميع أعضاء الجهاز فى المقر أغلب الوقت للمتابعة والرصد. ويجافى النوم «منتصر» لما شعر به من تقارير المعلومات بأن الاقتصاد الإسرائيلى معبأ للحرب، وعندما فاتح اللواء «حافظ فرهود» بتوجساته، وافقه ثم أفلتت منه عبارة قالها بوجوم: «الجماعة رأيهم غير كده.. واللعبة مستمرة للنهاية». وكانت غرفة الصالون الخاص برئيس المخابرات معبأة بالظنون وإحساس بالعجز، وعندما أوصله فرهود إلى الممشي، ربت على كتفه قائلا: «أنا مش مطمن». وكان من الطبيعى أن تحدث النكسة، وأن يحاول عبد الناصر بعدها استدراك الموقف، فيعين اللواء «حافظ فرهود» رئيسا لجهاز المخابرات، ولكن اللواء «حافظ فرهود» يعين «منتصر» ضمن فريق مكتبه كما ولو كان ينبئ عن فساد أكبر سوف يحدث وينتشر كل الانتشار فى عهد السادات؛ حيث نأخذ فى السماع عن الأثرياء والسوبر باشوات، ويبدأ عصر الانفتاح السداح مداح. ونقرأ فى الرواية عن علامات الفساد، والتى منها حرق مبنى الأوبرا الخديوية، وذلك فى اللحظة نفسها التى يعلن فيها «منتصر» لصديقته الفنانة أنه سوف يعوم من بحر إلى بحر، وعندما تحذره من السمك الكبير، يقهقه ضاحكا: «إنتى نسيتى إنى من مواليد برج الحوت».
الغريب أننا لا نرى علامات وطنية أخرى فى الرواية؛ خصوصا أننا ننتقل من عالم التحرر الوطنى إلى عالم التبعية، حيث ينفتح الطريق واسعا أمام «منتصر» لكى يمضى فى طريقه لا يعذبه سوى توتره بين النقائض: «الفرح بتراكم الثروة ونفوذ السلطة، ثم الخوف من غدر الزمن ... أصبح نومه قليلا وأقراص الفاليوم لا تفارقه. ويعلم أكثر من غيره طبيعة البيئة التى يتحرك فى أجوائها.. تزخر بالكذب والطمع... ترقبه العيون وتتعامل معه وفى نظراتها طمع مشع من أكبر كبير إلى أصغر صغير... وعليه أن يكون كريما ليسد الأفواه ويرشِّد الطمع، وعليه أيضا إخفاء معظم ثروته بعيدا عن العيون والأيدى الشرهة». هذا هو التوتر الذى كانت تجلبه الثروة لمنتصر طوال أيام السادات. ولا أظن أن هذا التوتر بين النقائض المختلفة قد تناقصت حدته تماما فى أيام مبارك، فمنطق الحذر الذى لابد أن يؤكد حضوره فى العالمين الداخلى والخارجى لأمثال «منتصر» الذين يدخلون دنيا المليارديرات لا تنتهى، وإن قل هونا فى زمن مبارك نتيجة الاقتراب الشديد من رأس السلطة، ولكن هذا الاقتراب الشديد لا يمنع من النهاية التى تنفجر مطيحة بكل من «منتصر» وصديقه الرئيس فى الوقت نفسه، فكلاهما علامة على نظام فاسد ونتيجة له، وسوف يتكرر حضور أمثالهما لو تكررت العناصر الأساسية الملازمة للفساد والمنتجة لأمثالهما.
أما عن الراوى، فالراوى العليم بكل شىء هو الذى يقابلنا من أول الرواية إلى آخرها، وذلك على نحو يذكرنا فيه الأسلوب بأننا إزاء روائى لم يحاول أن يخرج من عباءة نجيب محفوظ الواسعة، حتى اللغة نجد بعض مقاطعها تذكرنا بأسلوب نجيب محفوظ، لكن على نحو لا يلفت الانتباه دائما، فما أسرع ما ينسينا تدافع الأحداث ودرجة التشويق العالية، الانتباه إلى الخصائص الأسلوبية، فضلا عن الحيل الروائية التى تقارب ما بين هذه الرواية والرواية البوليسية فى تدافع الأحداث أو تداعيها على نحو لا يخلو من المفاجآت، وعن السؤال المتوقع: وماذا بعد؟!. وهو سؤال يظل يتكرر حتى النهاية التى نعرفها سلفا، لكن مخايلة السرد تلهينا عن ما نعرفه، وتجعلنا نراه فى ضوء جديد، فتبدو الأحداث الأساسية- حتى المعروف منها- كأننا لا نعرفها، أو لم نكن نعرفها على هذا النحو.