نصف الدنيا
عزت السعدنى
‎اخطب لبنتك.. وماتخطبش لابنك!
كان كبار العائلة.. وهم لا يتحدثون إلا حِكمة وصوابا.. فى الزمن الذى رفعوا فيه فوق الرؤس راية الحق والخير والحب والجمال والسعادة لكل البشر.

‎وكانوا يعرفون الدنيا حق المعرفة حتى لو لم ينالوا من قسط التعليم.. إلا ما حفظوه فى كتاب ـ بضم الكاف وتشديد التاء ــ الشيخ الضرير عادة الحالف بكتاب الله.. العارف بقواعد وأصول اللغة العربية والكتابة بالعربية فوق سبورة سوداء فى المندرة الكبيرة التى تمثل القاعة الكبرى فى الكُتّاب أو مدرسة الشيخ الضرير الذى يعلمنا ويحفظنا آيات القرآن والأحاديث وقواعد القراءة والكتابة أفضل مما يعلمه مدرسو ومدرسات هذا العصر لتلاميذ السنوات الأولى فى التعليم الابتدائى..

‎وكان هؤلاء الكبار العظام يقولون دائما «اخطب لبنتك وماتخطبش لابنك» يعنى «نقى عريس كويس لبنتك الأول» عشان يعرف يصونها ويخلف منها أولادا وبنات صالحين شبعانين حامدين شاكرين، بدلا من أن تزوّجها رجلا لا يعرف حق قدرها.. فتجوع أياما عنده وتشبع يوما.. وتنجب منه أولادا وبنات لا يفرقون بين الخير والشر.. بل إن الشر هو الأقرب إليهم !

‎لا فرق هنا بين رجل وامرأة.. بل إن النساء هنا هن الأقدر والأصوب والأذكى والأكثر حِكمة والأشد صبرا على الشدائد والملمات..

‎وفى صعيد مصر ــ بلد الرجالة إللى يقف عليها الصقر ــ تتولى النساء العجائز قيادة مركب الأسرة.. وكلمتها هى الأولى.. ومشورتها فى القضايا المهمة والمواقف المصيرية هى التى ينحنى أمامها أعتى الرجال كلمتها لا ترد.. وقرارها لابد من تنفيذه.. ولو طارت فيه رقابى ــ جمع رقبة بالصعيدى ــ وهو أمر لا مرد له فى صعيد مصر كله!

‎والمرأة الصعيدية عندما تكبر. يكبر معها مقامها لتصبح كبيرة العائلة ــ وليس الرجل وهذه بالذات تحتاج إلى دراسة علمية حقوقية.. من قبل علماء وخبراء المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية.. فهل يفعلون؟

‎وفى اعتقادى واعتقاد كثير من علماء المصريات أن الأم المصرية كبيرة السن، كبيرة المقام هى التى تقود دفة اتخاذ القرار الأخير فى بر الصعيد المصرى كله.. ومن عنده كلام آخر فليتفضل بالبوح به كلاما أو كتابة.

‎والمرأة عادة كما يقول علماء النفس والمجتمع عندما تتحرر من غرائزها ودوافعها وأحاسيسها وتطلعاتها واحتياجاتها الفسيولوجية عندما تكبر فى السن.. تصبح قمة فى الذكاء والدهاء والحِكمة التى اختزنتها عبر مشوار السنين!

‎وأسأل أنا: حتى لو لم تنل أى قسط من التعليم.. يادوب تفك الخط.. أو حتى لا تقرأ أو تكتب ولو مرة واحدة فى حياتها.. برضه يأخذ الأبناء الرجال «أصحاب الشنبات التى يقف عليها الصقر».. المشورة والرأى حتى وقتنا هذا من فم هذه العجوز «الكركوبة» ــ وآسف لهذه الكلمة ــ فى ربوع القرى والعزب والنجوع فى طول صعيد مصر وعرضه؟

‎الجواب: نعم وأنا شخصيا حضرت جلسة نزاع دموى بين عائلتين امتد إلى الوراء أكثر من نصف قرن وسالت من حوله دماء عشرات الضحايا من خيرة أبناء العائلتين من الرجال والشباب والأولاد الذكور..

‎أما الانتقام من جنس المرأة.. فلا وجود له.. وعيب جدا وعار أبدى ما بعده عار يلحق بالأسرة رجالا ونساء أن تقتل امرأة أو فتاة أخذا بالثأر حتى لو كان ثأرنا الذى نطالب بالقصاص له: امرأة!

‎قال لى شيخ العرب الذى أنجب طول حياته أكثر من خمسين ولدا وبنتا فى برارى كفرالشيخ فى الزمن الجميل: احنا يا باشا من يوم ما تتولد البنت نبقى عارفين مين راجلها يعنى مين هيكون جوزها.. لأننا مابنحبش خلط الأجناس وزفارة الدم إللى هيجى عندنا من الراجل الغريب عنا يعنى موش من حدانا ـ حاء ودال وألف ونون وألف ــ يعنى موش من ولدنا ومن دمنا ومن لحمنا ومن ترابنا.. ويندفن فى ترابنا.

‎أسأله: طيب لو واحد زعل البنت أو ضربها أو حتى عاوز يطلقها.. إيه الحل؟

‎قال ضاحكا: يا باشا مافيش عندنا حاجة اسمها طلاق.. الجواز لحد القبر راجل أو ست.. عشان كده مافيش حاجة عندنا اسمها زعل أو واحدة تروح بيت أبوها.. لو راحت.. بعد ساعة واحدة تكون فى بيت جوزها!

‎قلت له: يا سلام لو حصل كده فى بر مصر كله.. مابقاش فيه حاجة اسمها نكد ستات أو تدخل حموات.. أو تسلط أزواج!

* * *

‎كلمات عاشت:

«‎دارى على شمعتك تقيد». ‎مثل بلدى صميم
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف