محمد ابو الفضل
الحاجة إلى إحياء ذاكرة المصريين
تصاعد درجة الارتباك والشوشرة واللغط والانقسام، ونشر الشائعات وتصديقها أحيانا، كلها علامات تستوجب العودة بالذاكرة قليلا إلى الوراء، ومحاولة التوقف عند المحطات الرئيسية التى ظهر فيها معدن المصريين خلال الأعوام الماضية، خاصة عندما انتفضوا مرتين، فى 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013.
فى هاتين المرتين كان التلاحم واضحا، والرغبة فى التخلص من الكوابيس السياسية جليا، لكن تحقيق التطلعات والطموحات له أجندة مختلفة، عدم تحققها أصاب قطاعا من المواطنين باليأس وربما الإحباط، وهو ما ساعد دوائر محلية على بث سمومها، لقتل الروح عند المصريين، حتى لا تقوم لهم انتفاضات وثورات أخري، كما سعت جهات خارجية لنثر شائعات قاتلة، ليفقدوا الثقة فى قيادتهم الوطنية.
ربما نجح نفر من هؤلاء وهؤلاء فى الوصول إلى أغراضهم، لكن فى المحصلة النهائية لا يزال المصريون يعملون عقولهم، ويروضون قلوبهم لمواجهة تحديات خطيرة، فقد أدركوا أن طبيعة المرحلة تفرض قدرا من تحمل المعاناة، ليعبروا النفق القاتم بدرجة جيدة من التوازن، دون أن ينساقوا وراء غوايات سلبية أو ينجرفوا خلف أحلام سيريالية.
عندما قرأت كتاب «إحياء ذاكرة المصريين» الذى صدر أخيرا عن دار العين للدكتور جودة عبدالخالق أستاذ الاقتصاد المرموق ووزير التموين سابقا، ازددت اقتناعا بأن التعويل على قوة ذاكرة المصريين سوف يظل رهانا حقيقيا، ومن يحاولون التلاعب بهم، مهما كانت مواقعهم وأماكنهم، لن يستطيعوا، لأن الشعب اكتسب مناعة نادرة، وامتلك فطنة لا تخطئها عين، تطفو على السطح فورا وقت اشتداد الأزمات.
الكتاب الذى قدمه الدكتور جودة عبدالخالق للمكتبة العربية جزء من عصارة فكره وانشغاله بالشأن العام على مدى عشرين عاما، حيث يتضمن مختارات من المقالات التى خطها فى عموده الشهير «لقطات» بجريدة الأهالى خلال الفترة من 1998 ـ 2015، والتى شهدت تطورات مصرية مثيرة، تسبب بعضها فى تغيير جانب مهم من الملامح السياسية للبلاد.
تجميع وتنقيح وتبويب المقالات، ثم جمعها بين دفتى كتاب، لم يكن أمرا هينا على المؤلف، حيث شبهها بمحاولة إيزيس عندما أرادت جمع أشلاء أوزيريس فى المأثور الفرعوني، ومع أن الفارق فى الحالتين يبدو واضحا، غير أن المعنى الذى أراد توصيله للقاريء أنه تعب وفريق من التلاميذ والأصدقاء فى لم شمل ما تفرق من مقالات متعددة، وهى تنطوى على قيمة ثقافية وفكرية وعلمية كبيرة، تصلح لتكون مرجعا لكل من أراد معرفة وفهم وتفسير مجموعة من الأحداث مرت بها مصر فى العقدين الأخيرين.
ورغم انشغالات الدكتور جودة، سواء بالتدريس فى الجامعات المختلفة والسفر والترحال من بلد لآخر، فضلا عن تحمله عناء وزارتى التضامن والعدالة الاجتماعية ثم التموين والتجارة الداخلية، غير أنه كان حريصا على مواصلة كتابة مقاله الأسبوعى بصحيفة الأهالي، ناهيك عن سلسلة حوارات ومقالات ودراسات أخرى فى علم الاقتصاد السياسى نشرها فى جريدة الأهرام وغيرها من الصحف المصرية، وهذه ربما تستحق منه وقفة مستقلة.
اختيار عنوان «إحياء ذاكرة المصريين» لم يأت مصادفة، فقد جاء بعد بحث وتدقيق، لأنه يمثل (على حد قول المؤلف) قاسما مشتركا بين المقالات، كما أنها جميعا روافد تغذى هذا النهر الكبير، الذى نحن فى أمس الحاجة إلى إنعاشه فى الوقت الحالي، لنتمكن من مواجهة الرياح والعواصف التى تهب علينا من جهات مختلفة.
اللافت للنظر أن الدكتور جودة قام بجهد معتبر لتسهيل المهمة على القاريء، لأنه صنف المقالات وقسمها بين عدد من الفصول، عكس كل منها موضوعا أو ملفا أو قضية بعينها، فالفصل الأول مثلا اختار له عنوان «وطنيات» وحوى مقالات تتحدث عن الوطن بكل ما يحمله من معان ومضامين متباينة، ومع أن المقالات كتبت منذ فترة، إلا أن من يقرأها يشعر للوهلة الأولى كأنها كتبت هذه الأيام، لتشابه المشاكل والتصورات والإجراءات وحتى الأخطاء وطرق العلاج.
طوال رحلة المؤلف الطويلة تجد للتأملات دائما نصيبا ظاهرا فى أحاديثه وكتاباته، ويفرّغ من خلالها شحنة علمية مكثفة، منها ما حمل جوانب تتعلق بتوصيف الأزمات، من وجهة نظر أكاديمية، لكن غالبيتها شمل روشتات علاج لمشكلات مستعصية، وتحت فصل «تأملات» وضع مقالات عدة تتأمل فى معانى الأحداث والأشياء، وعبرت عن تجربة شخصية ثرية، بكل ما تعكسه من سلبيات وإيجابيات، قال إنها «أشبه بالنوافذ التى يطل منها القاريء» على داخل ومكنون نفس المؤلف.
العدالة الاجتماعية واحدة من أبرز الهموم التى حملها (ولا يزال) الدكتور جودة على عاتقه، وكان نصيبها ساطعا بين دفتى الكتاب، فهى قضية محببة إلى نفسه، لا تقل أهمية عن مطاردته المستمرة للاستبداد والفساد، ولمصر فيهما باع طويل، لأنهما من الآفات القاتلة على مستويات مختلفة، وبرع المؤلف فى تشخيص كثير من الأحداث التى تندرج تحتهما على مدى العقدين الماضيين، ثم ألحقهما بفصل عن الإصلاح السياسى والاقتصادى والثقافي، ولم يفته أن يبدى وجهة نظره فى المشروعات القومية الكبري، باعتبارها أحد العناوين الرئيسية فى هذه المرحلة.
ورغم التقديرات النقدية لكثير من القضايا التى تعرض لها المؤلف، غير أن كتاب «إحياء ذاكرة المصريين» ينطلق من حس وطني، وحرص تام على تقدم وازدهار هذا البلد.