الوفد
عباس الطرابيلى
هموم مصرية ..حقيقة حكاية حرق.. «آللينبي»!
لا أعرف هل مازال أهلي في دمياط يحرقون «دمية آللينبي» في شوارع وحواري المدينة حتي الآن، كما كنا نفعل من ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، أم أن عوامل التعرية التاريخية امتدت إلي هذه العادة.. أقول ذلك لأن أعمامي وأخوالي في بورسعيد يحرقون هذه الدمية، ولكن بعد أن طوروها لتلائم العصر.. فما هي حكاية هذه الدمية.. ومن هو «آللينبي» الذي نحرق دميته انتقاماً منه ومن دولة بريطانيا.. ومن أفعاله.

<< هو الجنرال إرموند هنري هاينمان آللينبي ولد عام 1861 ومات عام 1936، كان قائداً للجيش الانجليزي الثالث في فرنسا عامي 1915- 1917 ثم أصبح قائداً عاماً للقوات الانجليزية بقاعدتها في مصر، وتولي عملية الاستيلاء البريطاني علي فلسطين وسوريا، ودخل القدس ودمشق بقواته، بعد أن طرد القوات العثمانية منهما، في نهاية الحرب العالمية الأولي، وفي عام 1919 عين مندوباً سامياً بريطانياً في مصر- أي الحاكم بأمره فيها- وظل يشغل هذا المنصب أي الحاكم الفعلي لمصر حتي عام 1925.. ورغم انه كان وراء اعتراف بلاده بحق مصر في الاستقلال وتدخل للعفو عن سعد زغلول ورفاقه وهم في المنفي ثم بدايات اعداد دستور 1923 وأول انتخابات برلمانية عندنا أثمرت عن أول برلمان منتخب في يناير 1924 وأول حكومة شعبية برئاسة سعد زغلول.. إلا أن الشعب المصري لم يغفر له أبداً قسوته في مواجهته الثورة المصرية عام 1919 والمذابح التي ارتكبتها قواته في مصر، بتعليمات منه كحاكم فعلي.. ولذلك اخترع المواطن المصري حكاية حرق دمية تحمل اسمه.. وهي الدمية التي دخلت التاريخ الشعبي المصري، ومازالت.
<< فقد تفتق عقل المصريين- للانتقام- من رمز الاحتلال البريطاني.. وقام المصريون بصنع هذه الدمية وحشوها بكل ما هو غير صالح للاستخدام وإلباسها ملابس رثة.. وكنا نعلقها علي أعواد الخشب- علي شكل مشانق- مرتدية البرنيطة رمز البريطانيين.. ولم يكتف الدمياطي خاصة والمصري عامة بصنع دمية هذا الجنرال «آللينبي» بل صنعنا دمية أخري لزوجته.. أيضاً.
وكنا نحمل الدميتين ونطوف بهما علي أهم شوارع وأحياء المدينة في مظاهرة صاخبة من بعد غروب الشمس يوم الأحد السابق ليوم شم النسيم.. ونحن نهتف هتافات بعضها مؤدب مثل «يا آللينبي.. يا ابن ألمبوحة، مين قال لك تتجوز توحة».. وتوحة هذه ترمز إلي مصر!
أو هتافات غير مؤدبة مثل «يا آللينبي
يا ابن ألمبوحة.. ومراتك.. وعدة نقط وشرشوحة.. وهذه النقط أذكرها هنا بدلاً من ذكر الصفة التي تدخلني تحت مظلة قانون الآداب.. ولكنها كانت تعني الاستهزاء بهذا الجنرال الذي سام المصريين العذاب والبطش والقتل.
<< ونظل نطوف بالدميتين.. إلي منتصف الليل، ولا تجرؤ الشرطة علي الاقتراب منا.. حتي وان كان هناك قانون يمنع المظاهرات، ولكن ما أن تصل كل مظاهرة إلي مركز الحي أو الشارع الذي خرجت منه.. حتي تكون فرقة أخري من شباب وصبية الحي قد جمعوا كل ما لديهم من مواد قابلة للاشتعال ومعنا الشماريخ من جريد النخيل، وتبدأ الحريقة.. وما أن ترتفع النيران حتي نلقي بالدميتين في هذه النيران ونحن نغذيها بالمزيد من المخلفات ونشارة الأخشاب وما أكثرها في مدينة الأثاث! ونحن نرقص حول هذه الحريقة بينما النار تحرق دمية الجنرال.. ودمية زوجته وكان يحمل أيضاً لقباً من ألقاب اللوردات الانجليز بسبب ماضيه العسكري.
<< وكانت أحياء دمياط وحواريها تتنافس في هذه العملية تعبيراً عن رفض الشعب للاحتلال البريطاني.. ممثلاً في أكبر رأس بريطانية كانت هي الآمر الناهي في حياة المصريين بين عامي 1919 و1925.
وكان هذا الفعل الشعبي نوعاً من المقاومة الشعبية لهذا الاحتلال.. ورفضاً جماعياً لوجوده وتحكمه فينا.. ولهذا كانت الأحياء تتنافس فيه تعبيراً ذكياً عن رفضه للاحتلال ورموزه.
<< وبعد أن تنتهي «الحريقة» التي كنا نلقي فيها أيضاً كميات من البصل، كبير الحجم.. وحبات من البطاطس ليتم تسويتها علي هذه النيران- وكله فايدة- نجمع هذا البصل المشوي والبطاطس المشوية ونأخذها معنا مع الفسيخ والسردين والبصل الأخضر وصفائح المياه الحلوة وننطلق بالمراكب والفلايك الصغيرة- الشراعية والمجاديف- ونتجه شمالاً إلي رأس البر مع ساعات الفجر الأولي.. أو إلي سيدي شطا علي ضفاف بحيرة المنزلة.. لنمضي ساعات النهار في هذه أو تلك ونسبح ونغسل نفوسنا وأجسادنا مما عاناه الجسد.. لنعود إلي بيوتنا بعد العشاء وقد تجددت خلايانا.
<< تلك هي أصل حكاية «آللينبي» كما عشتها منذ أكثر من 70 عاماً ومازلت أتذكرها.. وأحن إليها.. تذكرني بزمن النضال الحقيقي من أجل الوطن.




تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف