أحمد بان
تحقيق الديمقراطية بالانتظار
من بين مناهج تحقيق الديمقراطية المعروفة فى تجارب الشعوب، وفى ظل التفرد الذى وسم تاريخ هذا الشعب، وفى ظل التردى العام الذى يحاول التخفى خلف الدعاية المكثفة للنظام السياسى، يحاول إقناع الوعى الجمعى للشعب بأنه على الصراط المستقيم ويواصل انجازاته غير المسبوقة، التى لا يشعر بها سوى النظام الحاكم على عادة مصرية عرفناها عبر عقود، تتحدث فيها الحكومة عن إنجازاتها بينما يتحدث الناس عن أوجاعهم المتصلة فى كل المناحي؛ يبرز منهج جديد فى التعاطى مع الإخفاق، وفى تحقيق تنمية حقيقية بعيدا عن ثقافة الحفر والردم، التى هى بعض مفردات البناء لكنها ليست هى التنمية والبناء على نحو ما يحاول البعض إقناعنا بذلك.
هذا المنهج هو الإنتظار الذى يعتقد فيه البعض سبيلا للتغيير وتحقيق الديمقراطية، وأظن أنه ليس البعض فقط بل ربما جل الشعب سواء بالفعل والاعتقاد معا، أو بالفعل والسلوك وإن تباينت المعتقدات حول ذلك.
فى الثقافة الشعبية أمثال من قبيل “إمشى سنة ولا تخطى قنا” وفى الأغانى “هاتولى حبيبى” يبدو المزاج العام للشعب الذى التصق بالنهر طويلا، حتى اكتسب وداعته وهدوئه وربما انتظاره.
كانت تعجبنى مقولة للرائع عبدالحليم قنديل يصف فيها مصرأنها هادئة كصفحة النيل ،لكنها داهسة كأقدام الفيل، لكن الفيل ياصديقى ربما أدمن الراحة والداعة وان كان فى أعماق النهر.
حتى مياه النيل تبدو مهددة، ولا تبدو سياسة التعقل التى يحرص عليها الرئيس فى التعاطى مع اثيوبيا وملقنها الصهيونى ناجعة فى تأمين مصالحنا، لكن الرئيس أيضا يبدو منتظرا كالشعب، يبدو أن عدوى الانتظار أصابت الجميع.
والسؤال هو هل الانتظار بمنطق “اصبر على جار السو، يا يرحل يا تجيلوا بلوة تاخذه” يبدو تفسيرا مقبولا، دعونا نتذكر أننا تحدثنا عن مبارك بنفس المنطق قبل أن ينهى فترته بالكامل، وبدا الخلاف بينه وبين الجيش فقط فى قضية التوريث، وليس في أى شىء أخر بالمناسبة.
الجيوش لا تتدخل فى السياسة ! لذا فقد منحت الشعب حقه فى اختيار حاكمه لمرة واحدة فقط، درس التاريخ لا يكرر ذلك مع الجيش مرتين، والجيش أيضا فى تقديرى لن يكرر ذلك مرتين.
فى المشهد الانتقالى الذى شهدته مصر بعد خلع محمد مرسى يجب تأمل أركان الإدارة الانتقالية التى سوقت مشهد الانتقال باعتباره مدخلا للتغيير أين ذهبوا الآن؟.
الرئيس المستشار الجليل عدلى منصور الذى قال لنا فى اجتماع رسمى أنه سيقف مع الشعب فى الشارع إذا انتهك الدستور، قنع بمقعده ومعاشه كرئيس سابق، وهاهو يشهد انتهاكات الدستور تتوالى فلا نسمع له صوتا ولا نرى وجهه حتى يتمعر، لا بأس لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ومن حقه أن يحظى بمعاش هادىء، فلم يكن الرجل مقاتلا فى تاريخه وإلا ما قبلت به الدولة أن يلعب هذا الدور الهام
المستشار السياسى للرئيس د.مصطفى حجازى رجل الدولة الحقيقى الذى لفت الأنظار عندما تحدث ممثلا لمصر فى محفل دولى بلغته ومنطقه وهيئته المشرفة، وتكوينه الوطنى الذى هضم الثورة ومطالبها وأدرك ضرورات الحكم، لكنه بقى مخلصا للمستقبل فى محيط يؤبد كآبة الحاضر وفشل الماضى، قنع الرجل فى مواجهة الواقع الجديد بتوجيه تلغرافاته الملغزة بحسب ما يسمح المقام، والتى بدا فيه مخلصا لأفكاره ولبلده ومستقبله،بالمناسبة يظن البعض أن الرجل لا يستطيع أن يتكلم بشكل مباشر ويخشى المواجهة، ولأني أعرف الرجل ومنطقه وتكوينه الراقى أستطيع أن اؤكد أنه يتحدث بطريقة واحدة فى مجلسه الخاص أو العام، وفق منهج إختاره لنفسه وميز خطابه وهو نقد الأفكار بأكثر المفردات تهذيبا، وهو ظل فى شخصيته يبدو نتاجا لتربية راقية وتكوين علمى مميز، لكن آفة الأمر أن الواقع بكل دخانه وضجيجه لا يترك فسحة من وعى تمكن من فهم مراده لدى البعض، وبالتالى يضيع أثر كلماته إلا من نخبة يمكنها واقعها من فهم وتفكيك مفردات خطابه الوطنى الشريف، ينصح الرجل الجميع لكن ظنى أنه لم ينتفع بنصحه الحاكم وإلا ماندر من المحكومين ، فى كل الأحوال الرجل يقدم ما يستطيع من أفكار، ولو بقى فى رأس السلطة فى موقع حقيقى لأمكننا أن نقيم أدائه بعدل.
أما نائب رئيس الوزراء الدكتور البرادعى الذى كان لقدومه الى مصر قبل ثورة يناير وحضوره الملتبس فى الثورة أثر كبير فى إعطاء دفعة من الثقة للثورة، وإبراز حضورها دوليا فقد غادر المشهد فى اللحظات الحاسمة، لكن خروجه الأبرز كان قبل فض اعتصام رابعة والنهضة وإبدائه الرفض لسياسات النظام الانتقالى الذى كان جزءا منه، لم يمنحه صك البراءة من المسؤولية، اختزل الرجل نضاله فى تغريدات أقرب لبيانات سياسية موجزة، ولعل آخرها وصفه للوضع الحالى فى مصر “بالحلقة المفرغة ندور فيها لا تقدم دون استقرار، ولا استقرار دون توافق وطني، ولا توافق وطنى دون عدل، ولاعدل دون ديمقراطية ولا ديمقراطية دون علم” وكل ما تفضل به الرجل صحيح لكنه لا يتحقق بالانتظار فى الخارج أو حتى فى الداخل.
تبقى محاولة عصام حجى التى تحدثت عن تشكيل فريق تكنوقراط رئاسى، يتصور أن طرحه منافسا فى انتخابات قادمة مقترحا لا أراه إلا لونا من ألوان العبث الذى لا تحتمله الأوضاع، فعلى ما ينطوي عليه الأمر من محاولة لكنه يتجاهل حقائق الأوضاع على الأرض من غياب مجتمع مدنى قوى وأحزاب سياسية حقيقة ودرجة من الوعى بأهمية الديمقراطية لم تتحقق، ولم يبدأ أحد المضى فى طريقها، فثقافة الانتظار أصبحت أحد تجليات الجين المصرى بامتياز، تأملوا شوارعنا ومصانعنا ومزارعنا ونوادينا لتتأكدوا أن الداء عميق وأن الديمقراطية لا تتحقق أبدا بالانتظار وقديما قال الشاعر:
وما نيل المطالب بالتمنى*** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
لكن شعبنا يحب الإنتظار ويكره المغالبة، فقد حفظ تراثنا الشعبى مثلا أثيرا يقول” بات مغلوب ولا تبات غالب”.
إيه …. الله غالب!