الأهرام
عبد الرحمن سعد
ما قدَّمت لغد
لأن حساب النفس لا يقل أهمية عن حساب المال، والعمل. ولأن من كثر حسابه لنفسه بالدنيا خَفَّ حسابه في الآخرة. ولأن الله شدَّد على أهمية حسابها في عشرات الآيات القرآنية.. لابد أن تحاسب نفسك، وألا تتركها: "ترعى مع الهَمَل".
السؤال الذي ينبغي أن يكون الشغل الشاغل لكل واحد منا: "ماذا أعددتُ من عمل ألقى به الله؟ ومن ذا يعمل أو يصلي أو يتحمل مسؤولية أعمالي ويجتهد أو يجاهد عني؟

لابد إذن أن يحاسب المرء نفسه عن: علاقته بربه، وطاعته له، وعن مهنته، وحرفته، وعن بر والديه، وصلة رحمه، وهل هو مسلم ملتزم بالإسلام حقا؟ وهل أدى ما سبق من أعمال في حياته، وهو ينتوي بها أن يكف نفسه وأهله، من الرزق الحلال، وأن يتقرب به إلى الرحمن، فلم ينشغل عن طاعة إلا بطاعة، ولم ينتقل من طاعة إلا إلى طاعة؟

"لابد أن أعمل صالحا ألقى به الله".. هذا أكبر هدف في حياة الواحد منا، فيتوقف عن التخليط، ويغلق صفحة المعاصي.

يخاطبنا الله في آية عظيمة هي قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".

إنها الآية الثامنة عشرة من سورة الحشر، وعدد كلماتها ثماني عشرة كلمة أيضا.

بدأت بالدعوة إلى تقوى الله، واختتمت بالدعوة ذاتها، وتكرر فيها لفظ الجلالة ثلاث مرات، كما وردت فيها الدعوة إلى إحياء الحياة بحساب النفس.

أحاطت الآية بحياتنا.. ففيها إشارة إلى تقوى الله، في ما مضى من عمرنا، والمحاسبة عما قدمنا لآخرتنا.. والله خبيرٌ بما نعمل.

"وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ".. المدى الزمني في حساب النفس مشار إليه بـ"غَدٍ"، وهي دعوة للعمل، بتلك الأفعال الثلاثة: "لْتَنْظُرْ.. قَدَّمَتْ.. تَعْمَلُونَ".. فذلك هو الفعل، والحدث.. أما الفاعل والمنفذ والمخاطب، فهو: "أنت".

لذا لابد من متابعة النفس في مجالين: "لم فعلته؟ وكيف فعلته؟".. الأول سؤال عن الإخلاص، والثانى سؤال عن المتابعة.

إنها بحق "آية المحاسبة"، وفيها تكريم للنفس البشرية أيضا.. "نَفْسٌ": كل نفس خلقها الله، دون استثناء. وهو خطاب للبشرية جمعاء، دلالة على عظم الأمر، وأهمية "النظر الدائم"، وهو التأمل، وإمعان النظر.

ذلك هو حساب النفس الذي جاء به الرسول، ودعا إليه البشرية، منذ بواكير دعوته بمكة.

"عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ"؛ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ: "يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنْ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا".(رواه مسلم).

إلا أن ما يقف حجر عثرة ضد حساب النفس؛ الاغترار بحلم الله، وبالحياة الدنيا، وبالعمل؛ فيراه المرء صالحا مقبولا، بينما هو فاسد مردود.

لذلك قاوم الصحابة تسرب ذلك الاغترار إليهم، فما كانوا يرضون عن أنفسهم. قال تابعي جليل: "التقيت بأربعين صحابيا، ما منهم واحد إلا ويظن أنه منافق".

كما عظم حساب النفس عند أجيال هذه الأمة جميعها: صحابة، وتابعين، وسلفا.

قال عمر بن الخطاب: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، وتزينوا للعرض الأكبر: "يَومَئِذٍ تُعرَضُونَ لَا تَخفَى مِنكُم خَافِيَةٌ".(الحاقة).

وقال الفضيل بن عياض: "من حاسب نفسه قبل أن يُحاسب.. خف في القيامة حسابه".

وقال الحسن البصري في قوله تعالى: "وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ".(القيامة:2): "نفس المؤمن.. لا تلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ والفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه".

ولم يكن الواحد من هذا الركب الكريم، يترك الأمر اعتباطا،، وإنما كان يمرن نفسه على الحساب، ويتدرب على لقاء ربه.

فكان للربيع بن خثيم حفرة تحت سريره.. كلما رأى من نفسه إقبالاً على الدنيا نزل فيها، متمثلا قبره، فيبكي كأنه في عداد الموتى، ويقول: "رب ارجعون". ثم يصعد منها، ويقول: "يا نفس ها أنت في الدنيا فاعملي صالحاً".

وكان الأحنف بن قيس يجيء بالمصباح، فيضع أصبعه أعلاه، ثم يقول: "حس يا حنيف.. ما حملك على ما فعلت يوم كذا وكذا.. ألك قدرة على النار؟".

إن كل نّفّس من أنفاس العمر، جوهرة ثمينة، فلنشتر بها، دوما، كنزا من كنوز الآخرة. وكما قيل: "ركعتان من ورِع خير من ألف من مُخَلِّط".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف