الأهرام
د. هالة مصطفى
قُـم للُمعــلم
عندما نظم أمير الشعراء أحمد شوقى قصيدتة الخالدة التى نحفظ مقطعها الأول عن ظهر قلب «قُم للمُعلم وَفّهِ التبجيلا..كاد المعلمُ أن يكون رسولا.. أعلمتَ أشرف أو أجلّ.. من الذى يبنى وينشيُء أنفساً وعقولا..» إلى أخر الأبيات، كان يقينا ينتصر للعلم والتقدم والنهضة التى لا تتحقق إلا بجودة التعليم واحترام المُعلم, الذى هو فى النهاية صانع عقول الأمة ومُهذبها. تُرى هل نجرؤ اليوم ترديد - دون خجل - هذه القصيدة بعد الواقع المُذرى الذى وصل إليه حال التعليم فى مصر؟.

أفرد برنامج «العاشرة مساء» الذى يقدمه الاعلامى المتميز وائل الأبراشى حلقة منذ أيام حول قرار محافظ بورسعيد إغلاق مراكز التعليم الخاصة, التى أصبحت تهدد المدارس الحكومية وتشكل كيانا موازيا لها. ببساطة أراد المحافظ أن يعيد للمدارس هيبتها ودورها الضائع وسط التدهور العام الذى كان للتعليم نصيبا كبيرا فيه وهو هدف نبيل فى ذاته. وللمفاجأة فقد ثار عليه الأهالى ممن يرسلون أبناءهم وبناتهم إلى تلك المراكز, مُختارين طوعا تحمل أعباء التكلفة المادية فيها عن التمتع بمجانية التعليم الحكومي, الذى لا يُعلم شيئا ولا يوفر أماكن آدمية لائقة لتلقى العلم مثلما صرحوا علنا. ومن ناحيته يشكو المُدرس ألمه إلى حد البكاء أمام الشاشة وفى حضور تلاميذه وتلميذاته من تدنى أحواله وأحوال المدارس عموما والتى تدفعه دفعا للبحث عن بديل, وبالقطع ليس كل المُدرسين من «أباطرة البيزنس» كما يُشاع. إنه مشهد قد يبدو عبثيا ولكنه بالتأكيد مُحزن.

وليس الهدف هنا التوقف عند تفاصيل هذه الأزمة ولا حتى مسألة الدروس الخصوصية, لأن القضية أعمق وأخطر من ذلك وتتجاوزه، فهى قضية دولة ومنظومة التعليم فيها.

والتعليم تحديدا ليس كأى قطاع فى الدولة, إذ أن أثاره سلبا أو ايجابا- ليست مقصورة عليه بل تمتد إلى جميع القطاعات ونواحى الحياة الأخري, فعندما تتراجع مؤشرات التنمية وتنخفض درجة الانتاجية ونعجز عن أى منافسة دولية فالسبب هو مستوى التعليم المتدني, وعندما يكون ترتيبنا فى أدنى السلّم فى العلوم والتكنولوجيا والابتكارات فهو ذات السبب أيضا, وعندما نشكو من تكدس الجهاز الادارى وجمود البيروقراطية التى تُعطل فرص الاستثمار وتزيد من أزمات الاقتصاد فسيكون بالطبع نظام التعليم, الذى يُخرج الألاف كل عام دون ربطهم بالحاجة الحقيقية لسوق العمل لتكون النتيجة الطبيعية إما بطالة مقنّعة من خلال توظيفهم فى هذا الجهاز أو بطالة صريحة كما نري, وعندما نعانى من استشراء أفكار التطرف والعنف والطائفية وعدم التسامح أو قبول الأخر فهو أيضا نفس النظام التعليمى المسئول عن تشكيل الوعى العام للأجيال الجديدة التى تنقاد بسهولة وراء الجماعات المتطرفة الخارجة عن القانون والوسطية الدينية, وعندما تُغلق قنوات الترقى الاجتماعي, أى الانتقال من شريحة إجتماعية الى أخرى أعلى من خلال التعليم الجيد الذى يؤهل الفرد للعمل المناسب ويكون السبيل البديل هو «الواسطة» فلا شك أن الخلل واقع فى تلك المنظومة التى نتحدث عنها وهكذا عشرات الأمثلة.

كرس طه حسين وهو من هو, جانبا كبيرا من وقته وجهده ومساهماته الفكرية عظيمة القيمة للتعليم, ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة بل اعتقادا راسخا بمحوريته للارتقاء بالفرد والمجتمع والدولة معا، وله مقال فى العشرينيات من القرن الماضى بعنوان «وزارة المعارف:العبث بالعلم والمُعلم والتعليم» أراه يعبر عن واقعنا حتى الآن، ولأنه لم يكن فقط مفكرا كبيرا وإنما كان سياسيا ومسئولا تنفيذيا أيضا بتوليه وزارة المعارف (التعليم حاليا), فقد عمد بكل الوسائل لوضع أفكاره محل التنفيذ وناضل من أجلها سواء بالنسبة للتعليم الالزامى أو الجامعي, رغم الاضطهاد الذى لاقاه من التيارات المنغلقة وتعسف السلطة السياسية ضده فى كثير من الأحيان.

وفى كتابه الشهير «مستقبل الثقافة فى مصر» 1938 والى جانب محتواة الثقافى الرائد, انتقد تعدد أنواع التعليم الُموزعة بين المدنى والدينى والأجنبى أو العام والخاص (مازلنا نعانى من هذه الثنائيات), التى تُغيب الأرضية الثقافية المشتركة اللازمة لتشكيل عقل ووجدان الأمة, كان طموحه أن تستند مراحل التعليم من الابتدائى إلى الثانوى على نفس أسسس العلوم والمعارف, قبل التخصص فى مرحلة التعليم الجامعى (لم يقصد بالطبع أن نهبط بمستوى المناهج والتعليم الأجنبى أو الخاص ولكن أن نرتفع بالمناهج التعليمية العامة لتكون على هذا المستوى لتضاهى أرقى الأمم). وبالتالى فإن مقولته ذائعة الصيت أن يٌصبح «التعليم كالماء والهواء» كانت تُرتب التزاما أساسيا على الدولة تجاه جميع مواطنيها للنهوض بالعملية التعليمية وفق رؤية شاملة. فى الواقع نحن لدينا كنوز من الأفكار ولا حاجة لنا للبحث عن نماذج «نقلدها» أو «نستلهما» مثلما يكثر الحديث عن التجربة الماليزية, حتى وإن كان معلوما أنه مجرد كلام لايصاحبه أى فعل.

إذن مفتاح الحل الحقيقى هو فى يد الدولة وليس فى الحلول الفردية والمجتزأة أو الجهود المبعثرة للمسئولين. الدولة فى المقابل مازالت تتجنب مواجهة هذة القضية والتصدى لها, قد يرى البعض أنها مجرد أزمة أموال وسط العجز المستمر فى الموازنة العامة ولكن ألم نوفر تمويلا هائلا وسريعا فى مشروع توسيع قناة السويس؟ المشكلة أنها (أى الدولة) مازالت لا ترى فى النهوض بالتعليم مشروعا قوميا يضعه فى مصاف المشاريع الكبرى كالعاصمة الادارية الجديدة المزمع إنشاؤها مثلا, فمردوده لن يُرى إلا على المدى الطويل.

إن السياسة اختيارات وتفضيلات وأولويات وإذا توافرت الارادة السياسية سيحتل التعليم المكانة اللائقة به كأولوية قصوي, وسيُعد أكبر استثمار لمصر بحكم امتلاكها لقوة بشرية هائلة وإلا سنكون كمن يُهدر ثروته طوعا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف