المصرى اليوم
عبد الناصر سلامة
الإدارية العليا.. تاريخ جديد
عشية صدور حكم المحكمة الإدارية العليا، حول قبول طلب رد المحكمة من عدمه، فى قضية جزيرتى تيران وصنافير، سألتُ إحدى الشخصيات القانونية المشهود لها حول توقعاته، فكانت إجابته حاسمة قائلاً: مجلس الدولة غداً إما أن يكون أو لا يكون، بادرتُه قائلاً: كيف؟ أجاب: أسباب الرد قوية ولا تقبل المناقشة، مما يوجب على المحكمة قبول الطلب، إلا أنه فى الوقت نفسه يجب أن نضع فى الاعتبار أننا أمام دائرة سوف تقضى بالحكم فى صلاحية دائرة أخرى، أى أنهم سوف يصدرون حكماً يتعلق بزملائهم، من هنا تأتى خطورة الموقف.

قلتُ: هكذا قضايا الرد دائماً، قال: الأمر ليس كذلك، فى القضاء العادى، قد تكون القضية منظورة أمام محكمة الجنح، أو الاستئناف، أو حتى الجنايات، إلا أن الأمر حين يتعلق بطلب رد، يتحول مباشرةً إلى دار القضاء العالى، لتنظره محكمة استئناف لا علاقة لها بالمحكمة التى كانت تنظر القضية الأصلية، أما فيما يتعلق بالقضية التى نحن بصددها، فنحن أمام دائرة تنظر فى صلاحية دائرة أخرى، قد تكون نفس القاعة، وقد يكون نفس الطابق، وقد يكون نفس اليوم، وقد تتبدل الدوائر بعد أيام، لنصبح أمام خليط من الدائرتين مرة أخرى.

على أى حال، محكمة القضاء الإدارى كانت قد سطرت فصلاً مهماً فى تاريخ هذا النوع من القضاء، وذلك بالحكم ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين كل من مصر والسعودية، والمعروفة بتنازل مصر عن الجزيرتين المشار إليهما، ولم يكن الحكم فقط هو موضع الفخر هنا، بقدر ما كانت حيثياته، التى تضمنت ٢٨ سبباً استندت إليها المحكمة، كانت كفيلة بالرد على أى ادعاءات أو مزاعم أخرى فى هذا الشأن، كان على كل أصحاب الموقف المناوئ أن يتدارسوها جيداً، لأنها كفيلة بتغيير وجهة نظرهم، إلا أنهم للأسف لم يفعلوا، أو هكذا بدا الأمر.

المهم أن الدولة- رسمياً- طعنت فى الحكم أمام الإدارية العليا، التى تم الطعن شعبياً بعد ذلك على تشكيلها، برد دائرة فحص الطعون لعدة أسباب موضوعية، أسفرت عن الحكم الصادر أمس من الدائرة السابعة بقبول طلب الرد، لتسطر هى الأخرى فصلاً، لا يقل أهمية عن ذلك الذى سطرته محكمة أول درجة، مما كان له أعظم الأثر فى نفوس المصريين جميعاً، باستثناء من لهم مصلحة بالطبع، ذلك أننا أمام نوع مهم من القضاء، كان قد بدأ يفقد أهميته شعبياً، بانغماسه فى قضايا كثيرة أقل أهمية، بل لا ترقى أبداً إلى مستواه، كقضايا عضوية الأندية، ومجالس الإدارات، والترقيات، والعلاوات، والشركات، والمصانع، وهى القضايا التى كان يجب أن تحسمها المحاكم العمالية، وغيرها من المحاكم الابتدائية.

إلا أن الأمر حينما يتعلق بمستقبل وطن، بأرض الوطن، بكرامة الوطن، تأتى أهمية هذا النوع من القضاء، انطلاقاً مما نص عليه الدستور فى هذا الشأن، بالعودة إلى القضاء فى أى اتفاقيات تتعلق بالدولة عموماً، وهو الأمر الذى أراد البعض أن يقفز عليه، أو يتجاهله، فى سابقة هى الأولى من نوعها عالمياً، وهى المتعلقة بالإصرار على التنازل عن الأرض، دون الرجوع إلى الشعب، ولا إلى القضاء، ولا إلى البرلمان.

وفى هذا الصدد، أود توضيح حقيقة مهمة قد تغفل عن البعض، وهى أن البرلمان الحالى، رغم ضعفه الواضح، ورغم عدم ثقة الغالبية فيه كما هو متداول، إلا أننى على ثقة أنه سوف يرفض، بغالبية مطلقة، أى طرح من شأنه التنازل عن أرض مصرية، سواء تعلق الأمر بالجزر أم بغيرها، وهو ما أكدته استطلاعات حقيقية داخل المجلس، وهو ما أدى أيضاً إلى عدم طرح هذه القضية للتصويت حتى الآن، وهو الأمر الذى أكده لى أحد وكيلى المجلس، موضحاً أنه نَصح رسمياً بعدم اللجوء إلى هذا الطرح.

قد يختلف، أيها السادة، أمر التمسك بالأرض من شعب إلى شعب، ومن قبيلة إلى قبيلة، ومن شخص إلى آخر، إلا أنه حينما يتعلق بشعب مصر، يكون مختلفاً من كل الوجوه، سواء على مستوى الأفراد، أو الجماعات، حتى وإن كان للدولة الرسمية رأى آخر، فهى زائلة فى كل الأحوال، ذلك أن مصر فقدت أرواحاً بمئات الآلاف، على امتداد تاريخها، دفاعاً عن الأرض، قد لا تكون هناك أُمَّة تعرضت لما تعرضت له الجغرافيا المصرية من غزوات وأطماع، إلا أنها جميعها باءت بالفشل، وربما كان هذا هو السر فى تكدس ملايين المصريين على رقعة لا تزيد على ٧٪‏ من مساحة الدولة ككل، تمسكاً بالأرض التى نشأوا عليها، فأصبح من الصعب مجرد التزحزح عدة كيلو مترات.

القضاء فى النهاية أيها السادة مؤسسة وطنية لا يجب أبداً التشكيك فيها بأى شكل من الأشكال، قد تكون هناك كبوة فى وقت ما، كما فى كل المؤسسات، قد يكون هناك بعض الأشخاص ممن يمكن ردهم أو الطعن عليهم، أيضاً كما فى كل المؤسسات، إلا أن مجلس الدولة، من خلال جناحيه، القضاء الإدارى والإدارية العليا، أثبت فى النهاية أنه الملاذ الأخير للحفاظ على حقوق الدولة والمواطن، فى آن واحد.. والمسيرة مستمرة بعون الله، حتى العودة إلى الرُشد.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف